أن يكون السياسي إنساناً

السكرتير الراحل للحزب الديمقراطي التقدمي الكوردي في سوريا عبد الحميد درويش
السكرتير الراحل للحزب الديمقراطي التقدمي الكوردي في سوريا عبد الحميد درويش

نُدين جرائم الحرب ونطالب بمحاكم دولية لبعض الشخصيات العسكرية بحثاً عن بقاء شيء من الأخلاق في السلك العسكري والقوات المسلحة لجميع دول العالم، و كذلك نستنكر بشدة ونشعر بالاشمئزاز والقرف عند رؤية طبيب أو ممرض قد تخلى عن إنسانيته وأصبح ممارساً للمهنة كمصدر دخل مادي فقط، ولكننا لا نقف كثيراً عند إنسانية السياسي، وكأننا فقدنا الأمل بوجودها أو أنه لا أهمية لها، وهو ما دعاني للوقوف في هذا المقال عند إنسانية السياسي الحكيم عبد الحميد درويش.

فضلاً عن أنه كان كاتباً، ولا مجال هنا طبعاً للخوض في الجلسات والندوات التي كان يقيمها و يشرف عليها و يدعو لها المثقفين على اختلاف توجهاتهم، فقد أولى الأستاذ عبد الحميد درويش مسألة الثقافة والقراءة أهمية كبيرة طيلة حياته، و ظل يشجع عليها حتى وفاته، ووجد في ذلك الطريق الأفضل لزراعة الفكر والرأي القويم المتزن و زيادة أعداد المثقفين المتنورين في الجزيرة السورية، والذي انعكس طبعاً بشكل إيجابي عليه وعلى حزبه بوجود كوادر متميزة من السياسيين التقدميين الذين نرى فيهم اليوم الشاعر والكاتب والمترجم والمحاضر .. الخ، والجانب الإنساني بشكل بديهي سيظهر بشكل أكبر عند السياسي المثقف أكثر مما يظهر عليه عند السياسي فقط.

بنفسه العزيزة و قلبه الكبير الذي لم يعرف الحقد طريقاً له رغم ما عاناه ككوردي أولاً و كسياسي ثانياً استطاع جذب انتباه جميع من حوله لأفكاره وأحاديثه التي تتقبلها معظم الشرائح والفئات في المجتمع ( أديان – قوميات – مذاهب – عشائر .. الخ ).

دخل قلوب الناس بالبساطة وليس بالتعقيد الذي سار عليه الآخرون ممن لُقنوا السياسة بشكل جامد فقط، ولم يستطيعوا أن يبدعوا فيها، و تركزت معظم جهوده في نشر المحبة والسلام من أجل بناء مجتمع يسوده التسامح وتتحقق فيه العدالة بين الناس، و هذا ما جعل أطروحاته السياسية عقلانية وإنسانية دائماً.

بوضوح شديد يمكن أن ترى هذا الشيخ العنيد الذي ضعف بصره وانحنى ظهره وهو مستمر بالسعي خلف مقاصده الشريفة وآماله الكبيرة و طموحاته المشروعة، و في نفس الوقت منكسر الخاطر بسبب الصدمات التي تلقاها واحدة تلو الأخرى من بعض المقربين وهم تتقلب مواقفهم وفقاً لمصالحهم الشخصية فقط، وعندما تزيد أوجاعه ويشعر بأن أحلامه تتلاشى تجد في كلامه بلسماً للجميع، وتتلمس حبه وعشقه لسوريا حتى في الأحاديث والنقاشات السياسية البحتة.

إن عاطفة الأستاذ عبد الحميد درويش جعلته يمارس السياسة بشكل مخالف لما هو معروف من فن وخطط، فلم يكن يجيد المراوغة وأساليب الاحتيال والخداع والتي يقول عنها رحمه الله: " تعلمت من الدكتور نور الدين زازا، ولم أتعلم هذا العلم الحقير والوضيع وأنا أمارس السياسة منذ أكثر من نصف قرن"، بل إن فكره المنفتح و قلبه الطيب جعلاه يكن الود والاحترام حتى لخصومه السياسيين أو المنشقين عن حزبه، و هو ما يدعونا لأن نرغب بنشر مثل هذا الفكر في جميع الأوساط السياسية.

سعى الأستاذ عبد الحميد درويش بإنسانية لا تتعارض مع أهدافه السياسية، بل تُساعد كثيراً في تحقيقها، وهذه الإنسانية هي التي دعته لطرح رؤاه بحكمة مختلفة عن الآخرين، وجعلت من أعداء قضيته أصدقاء له ولقضيته.

لم يقطع الأمل يوماً بأن تتحقق رغبته في تصالح الأطراف جميعها في سوريا، ومن جميل أخلاقه أنه كان يرفض بشكل قاطع الشتائم أو الطعن بشرف خصومه، و يرفض كلياً هذه الأساليب المبتذلة.

بكل تواضع كان يستمع لآراء الجميع ويتقبل أفكارهم، ولا يخاف لومة لائم في ذلك، وينبه باستمرار على جزئية أن السياسة لا يجب أن تبعدنا عن القيم الأخلاقية، و كان في طليعة السياسيين السوريين من رواد نظرية ارتباط السياسة بالأخلاق، و ضد شيطنة السياسيين، وبكل حزم كان يرفض قاعدة الغاية تبرر الوسيلة.

عمل الأستاذ عبد الحميد درويش في الميدان السياسي والدبلوماسي واضعاً مصالح شعبه السوري عموماً قبل مصالحه الشخصية أو الحزبية، ومتفانياً في خدمة الناس من رؤية إنسانية ووطنية، و كرر في كثير من الندوات والاجتماعات بأنه وحزبه ملك للشعب السوري عامة، بل وانتقده بعض المتعصبين الكورد يوماً لأنه يخص العرب بترحيب حار عندما يلقي كلمة أو خطاباً في الملتقيات أو المؤتمرات.

متعبٌ بهمه الوطني ولأنفاسه صوتٌ مرتفع يُنذر بقرب رحيله الأبدي، ويسابق الأيام والساعات لإنجاز أو تقديم شيء، لكنه سيعطيك وقته ويستمع لحديث عن رواية أدبية أو قصيدة غزلية أو قصة حب شاب لفتاة أو عن أي شيء آخر.

إنسانية عبد الحميد درويش خلقت لديه حسن النية الذي دفع ثمنه في بعض المرات، و معظم أخطائه السياسية التي وقع بها لم تكن لسذاجة سياسية وإنما بسبب حسن النية الذي خلقته إنسانيته بداخله، و حسن النية هذا هو الذي دفعه مثلاً للتبرع بمبلغ مالي للمعارض السوري المعروف رياض سيف بعد "إعلان دمشق" دون أن يعلم أن أطراف من إعلان دمشق حينها قد أخذت تمويلاً ضخماً من جهات مختلفة.

لنا الحق في الأستاذ عبد الحميد درويش تماماً مثل الكورد فقد كان رمزاً من رموز الجزيرة السورية و فخراً لجميع مكوناتها.

ليس من السهل أن تكون شخصاً و تحمل أعباء وهموم شعب في قلبك، وهذا بحد ذاته يعتبر تحدياً جمع فيه درويش بين السياسة والإنسانية بصورة جميلة.

كل كوردي صادق و مخلص لقضيته سيطيل النظر في صورة عبد الحميد درويش كمرشد أو ملهم له في ممارسة السياسة دون التخلي عن القيم الأخلاقية والعادات والتقاليد الأصيلة.

كان عبد الحميد درويش إنساناً كوردياً لا يُغلَب مصلحته السياسية والحزبية على حساب كلمة همس بها لطفل عربي أو موقف جميل قام به لصديق مسيحي.