العراق والصين.. كيف بددت سياسات البعث فرصة التحول إلى قوة صناعية؟
منذ خمسينيات القرن الماضي، امتلك العراق إمكانات كبيرة تؤهله لأن يكون قوة صناعية وعلمية. فمع اكتشافات النفط في ثلاثينيات القرن العشرين وزيادة الإنتاج، بدأت الإيرادات الضخمة تتدفق، ليصبح العراق من الدول ذات الموارد الطبيعية الكبيرة ، في المقابل كانت الصين، التي خرجت من الحروب الأهلية والنزاعات، تسعى لبناء نفسها من الصفر ولكن بينما استطاعت الصين منذ عام 1978، عبر سياسات الإصلاح والانفتاح، أن تتحول إلى قوة صناعية واقتصادية، سار العراق في طريق مختلف. كيف يمكن أن تقارن موارد العراق الضخمة وما آلت إليه الأوضاع بالنهضة الصينية؟
في عام 1958، دخل العراق مرحلة جديدة بعد الإطاحة بالنظام الملكي، وبدأت البلاد تحلم بالحداثة والتقدم. لكن مجيء حزب البعث إلى السلطة عام 1968 أدخل العراق في عهد من الحروب المتتالية، والعسكرة المتصاعدة، والسياسات القمعية التي بددت الموارد. كان يمكن للعراق أن يحقق قفزات صناعية وتعليمية كما فعلت الصين، إلا أن توجه البعث نحو العسكرة وتهميش القطاع المدني أدى إلى تبديد الفرص، فبدلاً من الاستثمار في التعليم والتكنولوجيا والبنية التحتية، تم توجيه الميزانيات الهائلة إلى القطاع العسكري وأجهزة الأمن.
على سبيل المثال، منذ ثمانينيات القرن الماضي، استنزفت الحرب العراقية الإيرانية، التي استمرت من 1980 إلى 1988، أكثر من 500 مليار دولار من خزينة العراق. كانت هذه الموارد تكفي لتحويل العراق إلى مركز إقليمي للصناعة والتعليم، لكنها أُهدرت في حرب عسكرية استنزافية لم تحقق شيئاً سوى الخراب الاقتصادي. في نفس الفترة تقريباً ، شرعت الصين في تطبيق سياسات إصلاحية استقطبت الاستثمارات الأجنبية، وحفزت النمو الصناعي. كانت الصين تستثمر 4% من ناتجها القومي في التعليم والتكنولوجيا، وفي المقابل كان العراق يُنفق أكثر من 25% من ميزانيته على التسلح.
بحلول نهاية الثمانينيات، وبينما كانت الصين قد بدأت بالفعل بالتحول حرفياً إلى (مصنع العالم) ، كان العراق يغرق في ديون تقدر بـ 80 مليار دولار. تم إهدار هذه الديون في تمويل مشاريع عسكرية وأمنية عديمة الجدوى، عوضاً عن الاستثمار في مجالات مدنية مثل التكنولوجيا والصحة والتعليم. بينما كانت الصين تطور صناعات أشباه الموصلات والإلكترونيات، التي جعلتها رائدة في هذا المجال اليوم، استمر العراق في التركيز على صناعات مثل الزجاج والإسمنت، وهي صناعات لا تقارن تقنياً بما كانت تسعى إليه الصين.
في عام 1991، وبعد غزو الكويت الخطأ الأغلى في مسيرة صدام حسين والعقوبات التي تلته، تعرض العراق لضربة قاسية، حيث تم تدمير البنية التحتية وتراجعت الصناعة بشكل كبير. كان معدل الأمية في العراق يتصاعد ، بينما كانت الصين تستثمر في التعليم بقوة، محققة معدلات نمو في الدخل الوطني تتراوح بين 8% و 10% سنوياً ، في السنوات التي تلت، أصبحت الصين أكبر مصدر للمنتجات التقنية، وأصبحت مدنها مراكز للتكنولوجيا، في حين دخل العراق في دوامة من الفقر وتدهور التعليم.
حتى اليوم، وبسبب إرث سياسات حزب البعث العسكرية، لا يزال العراق يعاني من تراجع كبير في الصناعات التقنية، ويستورد معظم احتياجاته التقنية من الخارج. هذا التوجه العسكري في إدارة الدولة أدى إلى انعدام ثقافة الابتكار والإنتاج المحلي، وترك العراق متخلفاً رغم امتلاكه للموارد.
بين العراق والصين يكمن درس واضح ، كيف أن السياسات الحكيمة والاستثمار في الإنسان والابتكار يمكن أن يحول الموارد إلى ازدهار، بينما تترك السياسات العسكرية والقمعية خلفها دولة غنية في مواردها، لكنها فقيرة في إنجازاتها.
ختاماً..العراق يمتلك موارد طبيعية هائلة غير مستغلة بشكل كافٍ، ومن أهمها السيليكا، التي تعتبر مادة استراتيجية تدخل في صناعات متقدمة مثل الزجاج، والالكترونيات، وأشباه الموصلات. إعادة استثمار هذه الموارد التقليدية وتحويلها إلى منتجات ذات قيمة عالية يمكن أن يفتح آفاقاً واسعة للتنمية الاقتصادية. يتطلب هذا إعادة التفكير في الصناعات التحويلية وتطوير البنية التحتية للتكنولوجيا والمعرفة. من خلال تأسيس مراكز بحث وتطوير، وتدريب الكفاءات الوطنية، والاعتماد على تقنيات حديثة، يمكن للعراق بناء قاعدة صناعية قوية تخلق فرص عمل، وتعزز من مكانته في السوق العالمية، وتقلل من الاعتماد على النفط.