
نادر سعدون
استشاري تأسيس وتطوير أعمال
سوريا والوصاية الدولية ..!

سوريا تعيش اليوم أزمة متعددة الأوجه ، أزمة جمعت بين الانهيار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والإنساني. بعد سنوات طويلة من الصراع والانقسامات الداخلية، تبدو الجهود المحلية عاجزة عن مواجهة حجم الدمار والخراب الذي طال الدولة ومؤسساتها. ومع سقوط النظام السابق و تشكيل حكومة جديدة مؤقتة، بات واضحًا أن هذه الحكومة تفتقر إلى الخبرات الضرورية لإدارة الوضع الراهن، ولا تملك خطة واضحة لإعادة البناء، مما يثير المخاوف من أنها تسعى فقط للانفراد بالسلطة دون تقديم حلول جذرية للأزمات العميقة.
إن مؤسسات الدولة السورية مثقلة بالفساد والبيروقراطية المترهلة، مما يجعلها عاجزة عن تقديم الخدمات الأساسية أو تنفيذ أي إصلاحات حقيقية. البطالة المقنعة، وسوء الإدارة، والتشريعات التي تعزز الفساد بدلًا من مكافحته، كلها مظاهر تثقل كاهل الدولة. في ظل هذه الظروف، تبدو الحكومة المؤقتة غير قادرة على التعامل مع هذا الكم الهائل من التحديات، بل يظهر أن هدفها الرئيسي هو تثبيت سيطرتها على الحكم بدلاً من العمل الجاد لمعالجة المشاكل الهيكلية.
الأزمة الإنسانية في سوريا تضيف طبقة أخرى من التعقيد. فمع نزوح الملايين، وعيش أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر، وغياب الحد الأدنى من الخدمات، أصبحت البلاد على حافة الانهيار الكامل. ومع ذلك، يبدو أن الحكومة المؤقتة تركز على تعزيز وجودها السياسي بدلاً من وضع خطة شاملة لتخفيف المعاناة الإنسانية. في هذا السياق، تصبح الوصاية الدولية خيارًا ضروريًا لإنقاذ الشعب السوري من هذه الأوضاع المزرية، حيث يمكن للمجتمع الدولي التدخل لضمان توزيع عادل وشفاف للمساعدات الإنسانية وإعادة تنظيم المؤسسات الخدمية.
التحدي الأكبر الذي تواجهه سوريا هو غياب الاستقرار السياسي، حيث إن الانقسامات العميقة بين مكونات الشعب تجعل من الصعب تحقيق توافق داخلي شامل. الحكومة المؤقتة، بدلاً من محاولة بناء جسور التواصل بين الأطراف المختلفة، تسعى لتهميش الآخرين وترسيخ سلطتها، مما يزيد من حدة الانقسامات ويعوق أي عملية انتقال سياسي. الوصاية الدولية يمكن أن تلعب دور الوسيط المحايد لتقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة، وتنظيم عملية انتقال سياسي تشاركي تضمن تمثيل الجميع في صنع القرار. هذه الخطوة ليست فقط ضرورية لضمان الاستقرار الداخلي، ولكنها أيضاً أساس لاستعادة مكانة سوريا الدولية وكسب ثقة المجتمع الدولي.
اقتصاديًا، الوضع أكثر خطورة. مع غياب رؤية اقتصادية واضحة من قبل الحكومة المؤقتة، تواجه سوريا احتمال استمرار التدهور الاقتصادي لفترة طويلة. الوصاية الدولية تفتح آفاقًا واسعة أمام إعادة بناء الاقتصاد السوري من خلال التعاون مع منظمات دولية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي. يمكن وضع خطط شاملة لإعادة الإعمار تشمل تطوير البنية التحتية، دعم القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة، وتحفيز الاستثمارات المحلية والدولية. كما يمكن للوصاية أن تساهم في استعادة الأموال السورية المنهوبة والموجودة في الخارج و انتهاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على النظام السابق و التي تستمر حاليا مع زوال ذلك النظام ، مما يعزز من موارد الدولة ويدعم استقرارها المالي.
الوصاية الدولية توفر أيضًا سياسات نقدية فعّالة لمعالجة التدهور الحاد في قيمة العملة السورية. تثبيت سعر الصرف وزيادة الاحتياطيات النقدية الأجنبية يمكن تحقيقهما من خلال تعزيز الصادرات، جذب تحويلات السوريين في الخارج، وتنظيم الأسواق المالية. هذه الإجراءات تساهم في استقرار الأسواق المحلية، مما يحفز الإنتاج ويقلل من معدلات التضخم التي تثقل كاهل المواطنين.
من الإيجابيات الكبيرة للوصاية أنها تضمن حيادية القرارات بعيداً عن المصالح الشخصية والسياسية التي قد تسعى الحكومة المؤقتة لتكريسها بالتعاون مع بعض الدول التي اوصلتها أصلا الى السلطة حاليا . كما تتيح الوصاية فرصة لبناء نظام قضائي عادل وشفاف يضمن محاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات التي حدثت خلال سنوات الصراع. بالإضافة إلى ذلك، توفر الوصاية بيئة اقتصادية مستقرة وآمنة تشجع المستثمرين السوريين في الخارج وأصحاب رؤوس الأموال الذين غادروا على العودة والاستثمار في بلادهم، مما يخلق فرص عمل جديدة ويحرك عجلة الاقتصاد.
إضافة إلى ذلك، لا يمكن تجاهل أهمية دعم قطاع التعليم والصحة، وهما ركيزتا أي تنمية مستدامة. الوصاية الدولية يمكن أن تضمن تحسين جودة الخدمات التعليمية والصحية، مع التركيز على الفئات الأكثر تضرراً. تطوير المناهج الدراسية، بناء مدارس ومستشفيات جديدة، وضمان وصول الخدمات الصحية والتعليمية إلى جميع المناطق، هي خطوات ضرورية لتحقيق تنمية حقيقية.
الخطر الأكبر من استمرار الوضع الحالي مع حكومة مؤقتة تفتقر إلى الخبرات والرؤية هو أن الأزمات ستتفاقم، مما يجعل البلاد عُرضة لمزيد من الانهيار. لذلك، يصبح التدخل الدولي ضرورة ملحة لضمان مستقبل أفضل لسوريا. الوصاية الدولية ليست انتقاصاً من السيادة الوطنية، بل هي خطوة مؤقتة لحماية مصالح الشعب السوري وإعادة بناء دولته على أسس سليمة. الهدف النهائي هو تسليم دولة مستقرة ومزدهرة لشعبها ليكونوا مسؤولين عن مستقبلهم بعد زوال أسباب الصراع والانهيار.
الوصاية الدولية هي أداة أثبتت فعاليتها في مساعدة الدول التي تعاني من أزمات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية عميقة على استعادة الاستقرار وبناء مؤسساتها. تاريخيًا، استخدمت هذه الآلية في عدد من الدول التي شهدت انهيارًا تامًا في مؤسساتها أو صراعات مدمرة، وأسفرت عن نتائج متباينة بين النجاح الكامل والتحديات المستمرة.
تعد تجربة كوسوفو واحدة من أبرز الأمثلة على الوصاية الدولية و كذلك تيمور الشرقية، والبوسنة والهرسك و كمبوديا ، ومن الأمثلة التاريخية البارزة، تجربة ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. وضعت الدولتان تحت وصاية الحلفاء لإعادة بناء الدولة ومنع تكرار العدوان. في اليابان، تم إعادة كتابة الدستور وتأسيس نظام ديمقراطي، بينما أُعيد بناء ألمانيا وتقسيمها مؤقتًا إلى مناطق تحت إدارة الحلفاء. كانت النتيجة أن الدولتين أصبحتا من أقوى الاقتصادات في العالم، مع أنظمة ديمقراطية مستقرة، مما يعكس نجاحًا باهرًا لتلك الوصاية.
هذه التجارب تقدم دروسًا قيمة عن فوائد الوصاية الدولية، لكنها تكشف أيضًا عن التحديات التي قد تواجهها. من بين الفوائد الرئيسية للوصاية الدولية إعادة بناء المؤسسات، تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي، وجذب الاستثمارات وتنمية الاقتصاد. ومع ذلك، قد تواجه الوصاية رفضًا شعبيًا إذا لم تكن مدعومة بإجماع وطني، وقد تستمر التوترات بين الأطراف المحلية حتى بعد انتهائها. كما أن نجاحها يعتمد على التزام طويل الأمد من المجتمع الدولي، واستعداد الأطراف المحلية للتعاون.
في حالة سوريا، قد تكون الوصاية الدولية خيارًا مناسبًا لمعالجة الأزمات المتفاقمة، بما في ذلك الفساد والانهيار الاقتصادي والانقسامات السياسية الواضحة و تصرفات الحكومة الحالية المؤقتة . تجارب الوصاية في دول أخرى تثبت أنها يمكن أن تكون أداة فعالة لبناء دول مستقرة، بشرط أن تكون مدروسة وتلقى دعمًا محليًا ودوليًا. سوريا قد تستفيد من الوصاية لإعادة بناء مؤسساتها وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي، مع ضرورة أن تكون الوصاية محددة بجدول زمني وتشمل مشاركة جميع الأطراف لضمان نجاحها واستدامتها.