روسيا وسوريا ما بعد 2024: استراتيجيات القوة وتحديات السيادة في قلب الشرق الأوسط

أحمد الشرع خلال استقباله نائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف بدمشق
أحمد الشرع خلال استقباله نائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف بدمشق

في ديسمبر 2024، شهدت سوريا تحولاً جذرياً مع تغيير النظام الحاكم، لتدخل مرحلة جديدة من التعقيدات الجيوسياسية التي تضع روسيا في مركز صناعة القرار. فموسكو، الحليف التاريخي لدمشق، تواجه اليوم اختباراً مصيرياً في موازنة مصالحها الإستراتيجية مع احترام السيادة السورية، وسط تحديات داخلية وإقليمية تهدد بإعادة تشكيل خريطة النفوذ في المنطقة.

في لقاء جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأمير قطر في 17 أبريل 2025، جدد بوتين التزام بلاده بالحفاظ على سوريا كدولة ذات سيادة وموحدة. ولم يقتصر التأكيد الروسي على الجانب السياسي، بل امتد ليشمل الرغبة الصادقة في تقديم الدعم الإنساني للشعب السوري الذي يواجه أعباء أزمة اقتصادية وأمنية معقدة.

الجذور التاريخية: شراكة تتجاوز التحالفات المؤقتة

لا يمكن فهم عمق العلاقة الروسية السورية دون العودة إلى حقبة الحرب الباردة، حين كانت سوريا حليفاً رئيسياً للاتحاد السوفيتي في مواجهة النفوذ الغربي. ومع انهيار القطب الاشتراكي، حافظت موسكو على وجودها العسكري والدبلوماسي في سوريا، لكنها عادت بقوة بعد 2015. وبعد تغيير النظام، تُعيد روسيا تعريف دورها: من داعم عسكري إلى ضامن للاستقرار في دولة مُهترئة الأوصال، تعصف بها أزمات اقتصادية وأمنية متشابكة، مشددةً على أولوية تقديم المساعدات الإنسانية. لكن هذا الخطاب الرسمي يخفي تحته تناقضات عميقة، لعل أبرزها الموقف من قضية الأقليات، التي تبقى الحلقة الأضعف في السياسة الروسية.

معضلة المكونات: بين الورقة الداخلية والضغوط الخارجية

تشكّل المكونات (الأقليات) اختباراً لمدى مرونة السياسة الروسية. فالأكراد، الذين يشكلون قوة سياسية وعسكرية فاعلة، يطالبون بحقوق، وكذلك المكونات الأخرى من الشعب السوري مثل الدروز والعلويين، بينما تُظهر موسكو تحفظاً معلناً. هذا التردد الروسي لا ينفصل عن اعتبارات داخلية؛ فالوجود الكبير والمؤثر للأكراد في روسيا الاتحادية، وبعضهم ناشطون سياسياً واقتصادياً، يفرض على الكرملين مراعاة حساسية دعم أي انفصال قد يُشجِّع النزعات الانفصالية في القوقاز. من هنا، تتبنى موسكو خطاباً غامضاً، تُركِّز فيه على الحلول التوافقية تحت مظلة دمشق.

يبرز سؤال محوري: هل تستطيع روسيا الحفاظ على تحالفها مع دمشق مع استيعاب مطالب المكونات الأخرى بالفيدرالية؟ حيث تعتبر روسيا الاتحادية نموذجًا لدولة فدرالية معقدة، تحت لوائها جمهوريات وأقاليم ومقاطعات تتمتع بمستويات مختلفة من الحكم الذاتي. وقد نشأ هذا الهيكل الاتحادي نتيجة لتاريخ روسيا المتنوع وتعدد أعراقها وثقافاتها. تعاملت روسيا على مر السنين مع تحديات إدارة هذا التنوع، وسعت إلى تحقيق توازن بين سلطة المركز وحقوق الكيانات الفدرالية. على سبيل المثال، تتمتع الجمهوريات ذات الأغلبية غير الروسية بحقوق في الحفاظ على لغاتها وثقافاتها وتقاليدها، ضمن إطار الدستور والقوانين الاتحادية.

بالنظر إلى هذا التاريخ والتجربة، قد تكون هناك دروس مستفادة لسوريا التي تتميز أيضًا بتنوع عرقي وديني. على الرغم من أن السياقين التاريخي والسياسي مختلفان بشكل كبير، إلا أن مبادئ توزيع السلطات، وضمان حقوق المكونات المختلفة، وإيجاد صيغة للتعايش السلمي ضمن دولة موحدة، قد تكون مهمة. ومع ذلك، من الضروري التأكيد على أن أي نموذج لمستقبل سوريا يجب أن ينبع من إرادة السوريين أنفسهم ومن حوار شامل بين جميع الأطراف المعنية. إن التجربة الروسية في الفيدرالية يمكن أن تقدم بعض الأفكار أو وجهات النظر، ولكن الحل النهائي يجب أن يكون سوريًا خالصًا. وقد كشفت وثيقة مسربة من أرشيف الأمم المتحدة (نُشرت في موقع Middle East Eye عام 2020) وفي جريدة (Moscow Times) عن مسودةٍ روسيةٍ عام 2016 تُقسّم سوريا إلى أربع مناطق حكم ذاتي (الساحل، دمشق، الشمال الكردي، الجنوب). ورغم أن الخطة رُفضت دوليًّا آنذاك، إلا أن خبراء مثل فيتالي نعومكين (مدير معهد الاستشراق الروسي) يرون في مقالته بـمجلة Russia in Global Affairs (2022) أن الفيدرالية قد تكون "البديل الوحيد" لتجنب التقسيم الطائفي.

في مقارنةٍ بين النموذج الروسي (ذي 89 كيانًا فيدراليًّا) والواقع السوري، يرى الخبير الدستوري إيغور كوفالينكو في كتابه "الفيدرالية وتحديات التنوع" (2021) أن النظام اللامركزي الروسي نجح في إدارة التنوع العرقي (كما في جمهورية تتارستان)، لكن تطبيقه في سوريا يتطلب ضماناتٍ ضد انفصال المكونات. لكن السؤال الأعمق: هل يمكن لسوريا، المُنهكة بعد حرب دامت أكثر من عقد، أن تبني نظاماً توافقياً دون تدخل خارجي؟

أكدت روسيا مرارًا، على لسان رئيسها، دعمها الكامل لاستقلال سوريا ووحدتها وسلامة أراضيها. كما تجسد مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية السورية في تصريحاتها المتكررة بعدم نيتها فرض أي مشاريع سياسية على السوريين. بل على العكس، أعلنت موسكو استعدادها لدعم أي مشروع يحظى بموافقة السلطات السورية الجديدة.

وفي نظرة من الداخل السوري: تطلعات نحو دور روسي فاعل

يعكس صوت ممثلي الشعب السوري تطلعات إيجابية نحو الدور الروسي المستقبلي. فقد وصف السيد حسن محمد علي، مسؤول العلاقات الخارجية في مجلس سوريا الديمقراطية لمعهد (PRISIP)، قائلاً: "روسيا دولة عظمى لها دورها الكبير على الصعيدين الإقليمي والدولي. ونريد تطوير العلاقة بما يخدم مصلحة شعب سوريا وكان لها دور رئيسي في المعادلة السورية في المرحلة الماضية، ونتمنى أن تلعب دورها في هذه المرحلة أيضًا من أجل تحقيق الاستقرار والسلم في سوريا. وسوريا لها علاقات قديمة تمتد إلى عقود مع روسيا، ووفق التوازنات الجديدة، فإن الحفاظ على هذه العلاقة سيخدم روسيا وسوريا. من المهم بالنسبة لنا أن نفهم كيف ترى روسيا علاقتنا المستقبلية."

مكافحة الإرهاب: بين الخبرة الروسية وإرادة الشعب السوري

تمتلك روسيا ترسانة من الخبرات في مكافحة الإرهاب، من الشيشان إلى سوريا، تعتمد على مزيج من القوة العسكرية والهندسة الاجتماعية. فبرامج الإرشاد الأسري، والتعاون مع المؤسسات الدينية، تهدف إلى تجفيف المنابع الفكرية للتطرف. لكن بوتين يردد بحكمة: "على سوريا أن تقف على قدميها"، في إشارة إلى أن الاستقرار الحقيقي لا يُفرض من الخارج، بل يولد من إرادة المجتمع نفسه. ومع ذلك، تبقى القواعد الروسية في سوريا ضمانة أمنية، وورقة ضغط في لعبة النفوذ الإقليمي.

المشاريع التركية التوسعية في الشرق الأوسط تصل إلى حدود روسيا في مشروع "توران العظيم"

رغم العلاقات الاقتصادية الوثيقة مع أنقرة، لا تتوانى روسيا عن مواجهة المشاريع القومية الطورانية، التي تهدد أمنها القومي. فـ**"توران العظيم"**، الحلم الجغرافي للقوميين الأتراك، يُذكر موسكو بدور أنقرة في تفكيك الاتحاد السوفيتي عبر نشر الأفكار الطورانية. اليوم، تتبنى روسيا سياسة "القوة الناعمة" مع تركيا: تتعاون في مجال الطاقة (مثل مشروع "تيوب الترك")، لكنها تستعد للرد بحزم على أي اختراق لحدود المصالح. تصريحات أردوغان "المُختبرة" ضد روسيا تُظهر لعبة القط والفأر بين العملاقين، حيث كل منهما يحاول كسب الوقت دون كسر التحالف.

طموحات روسيا في الشرق الأوسط: ضمان الاستقرار والمصالح الاقتصادية

تستمر موسكو في الاضطلاع بدور الضامن للأمن الإقليمي، وتقديم الدعم لسوريا في حربها ضد الإرهاب والتطرف. وقد أظهر الرئيس بوتين براعة سياسية وحكمة في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط، وغالبًا ما وقف إلى جانب دول المنطقة. ولا يمكن إغفال البعد الاقتصادي لهذه السياسة، خاصة في ظل العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، والتي تجعل التنسيق مع دول المنطقة في ملفات الطاقة أمرًا حيويًا.

ختامًا:

تستعد روسيا لمرحلة جديدة في علاقاتها مع سوريا، مرحلة تتطلب منها موازنة دقيقة بين الحفاظ على مبادئها الراسخة، والتكيف مع المتغيرات الإقليمية والدولية، والاستجابة لتطلعات الشعب السوري بمختلف مكوناته. يبقى السؤال حول تفاصيل الرؤية الروسية للمستقبل السياسي لسوريا، وخاصة فيما يتعلق بالقضية الكردية، مفتوحًا، لكن المؤشرات الحالية تدل على أن موسكو تسعى لترسيخ دورها كفاعل رئيسي في المنطقة، يرتكز على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.

-- روسيا في المتاهة السورية... هل هو فخ جيوسياسي؟!

تواجه روسيا تحدياً ثلاثي الأبعاد في سوريا:

 * داخلياً: التوفيق بين دعم الحكومة المركزية وضمان حقوق المكونات.

 * إقليمياً: موازنة التحالف مع إيران وتركيا، وهما خصمان تاريخيان.

 * عالمياً: تحييد التدخل الغربي مع تفادي الصدام المباشر مع الناتو.

رغم كل ذلك، تبقى سوريا رقعة شطرنج كبرى لموسكو، حيث تُختبر قدرتها على التحول من "قوة عسكرية" إلى "فاعل حضاري" قادر على صنع استقرار دائم. النجاح هنا لن يُقاس بعدد القواعد العسكرية، بل بقدرة روسيا على كتابة فصل جديد في تاريخ الشرق الأوسط... فصل تُصاغ نهايته بلغة المصالح لا الأيديولوجيا.