سوريا: من جمهورية ماتت إلى خلافة لم تولد

سوريا: من جمهورية ماتت إلى خلافة لم تولد
سوريا: من جمهورية ماتت إلى خلافة لم تولد

المقدمة

يشكّل التحول السوري بعد انهيار النظام الجمهوري أحد أكثر النماذج تعقيدًا في الشرق الأوسط المعاصر. فبينما كانت الجمهورية السورية لعقودٍ تقوم على مركزية السلطة وضبط المجال العام باسم “الأمن القومي”، أدى تفككها إلى بروز هياكل متنافسة: إدارية، دينية، ومناطقية. هذا التفكك وفّر بيئة مثالية لتجارب سياسية وهويات بديلة، كان أبرزها المشروع التركي في الشمال السوري واليوم الدولة السورية بشكل كامل الذي يتجاوز حدود الحرب، ويعيد طرح مفهوم “الوصاية الجيوسياسية” على نحوٍ جديد.

سقطت الجمهورية، لكن لم تقم دولة. وبدلًا من أن يملأ الفراغ دستورٌ جديد أو عقدٌ اجتماعي، تمدّدت شعارات الخلافة في فضاءٍ تائه، بين راياتٍ سوداء وأخرى مذهبية، وكأن التاريخ قرّر أن يعيد نفسه بصورة أكثر فوضى وأقل عقلًا.

وانكسرت الفكرة قبل النظام

الجمهورية السورية لم تسقط يوم انهار قصرها السياسي، بل حين تحوّلت من فكرةٍ إلى أداة. لعقود، كانت السلطة تتحدّث باسم الشعب، ثم صارت تتحدث بدلًا عنه. اختُزل الوطن في العائلة، والعائلة في الزعيم، والزعيم في الخوف.

حين تفكّكت تلك المعادلة، لم يكن أمام الناس سوى خيارين: إما الطاعة العمياء أو التمرّد الأعمى. وبينهما ضاعت الدولة.

التطرف لم يولد في المساجد ولا في الجبهات، بل في عجز الجمهورية عن أن تكون عادلة، وفي فشلها في منح الناس معنى حقيقيًا للمواطنة. كان الفراغ هو الأب الحقيقي للخلافة، لا الدين.

الفوضى كبديل عن النظام

بعد سقوط الأسد، لم يكن هناك مشروع واضح لإدارة البلاد. القوى التي حملت السلاح لم تحمل معها فكرة الدولة، بل فكرة الانتقام. تعددت الرايات، وكثرت الفصائل، وذاب الحلم في كثافة السلاح.

في كل قريةٍ ومدينةٍ وحيّ، نشأت سلطة جديدة تُشبه مقاتليها أكثر مما تُشبه الوطن. من مجالس مدنية مرتبكة إلى أمراء حرب يوزّعون العدالة بحدّ الرصاصة، تحوّلت سوريا إلى خريطةٍ متقطعة، لا يجمعها سوى الألم.

وفي ظل هذا الفراغ، وجد خطاب “الخلافة” أرضًا خصبة. فحين يغيب القانون، يبحث الناس عن اليقين، وأبسط أشكال اليقين هو الإيمان المطلق، ولو كان على حساب العقل.

من الفكرة الدينية إلى المشروع السياسي

الخلافة في الوعي الشعبي السوري لم تكن فكرة طارئة، بل ظلًّا بعيدًا لفقدان المعنى. لكنها في نسختها الحديثة لم تكن روحًا بل سلاحًا. حين رفعت الجماعات المتشددة راياتها، لم تكن تدافع عن الدين بقدر ما كانت تسعى لاحتكار السماء.

في زمن الحرب، يصبح كل شيء قابلًا للمساومة، حتى الله نفسه. وهكذا، صارت الخلافة مشروعًا سياسيًا تغذّيه دولٌ تبحث عن نفوذ، وتغضّ الطرف عن دمارٍ لا يشبه النصر في شيء.

أحمد الشرع، في محاولته لترميم الدولة، وجد نفسه بين نارين: جمهورية فقدت معناها، وخلافة تبتلع الأرض باسم الإيمان. بين التاريخ والعقيدة، يحاول الرجل أن يعيد للعقل مكانته وسط ضجيج البنادق والفتاوى.

بين جمهورية الخوف وخلافة الوهم

الأسد حكم سوريا بالخوف، أما من جاء بعده فحكمها بالوهم. كلاهما سلب الإنسان حريته، الأول باسم الأمن، والثاني باسم الدين. والنتيجة واحدة: مواطن بلا صوت، ووطن بلا ملامح.

الجمهورية كانت تُقدّس الزعيم، والخلافة تُقدّس الفكرة. كلاهما ألغى الفرد لحساب الكل، وكلاهما صنع عبوديةً مغلّفة بالشعارات.

لكنّ الفارق الأخطر أن الجمهورية كانت دولةً يمكن إصلاحها نظريًا، بينما الخلافة الحديثة مشروعٌ لا يقبل الإصلاح، لأنها تعتبر نفسها الكمال ذاته.

أولًا: تركيا وصياغة المجال السوري الجديد

منذ عام 2016، تحوّل التدخل التركي في شمال سوريا من سياسة أمنية مؤقتة إلى مشروع إداري واقتصادي مستدام. أنقرة لم تتعامل مع المناطق الحدودية كمساحة أمنية فحسب، بل كحقل تجريبي لإدارةٍ هجينة تجمع بين السيطرة العسكرية والإدارة المدنية.

المناهج الدراسية، والعملات المتداولة، وشبكات البلديات أعيد تنظيمها على النمط التركي. هذه التحولات لا يمكن قراءتها بمعزل عن رؤية “العثمانية الجديدة” التي تسعى إلى إعادة تشكيل المجال الجيوسياسي المحيط بتركيا على أسس ثقافية واقتصادية متداخلة.

وبحسب بعض مراكز الأبحاث التركية، فإن “النجاح في إدارة شمال سوريا نموذجًا” قد يشكّل نموذجًا أوليًا لما يُعرف بـ“مشروع توران الكبير”، الذي يمتد فكريًا وجغرافيًا من الأناضول إلى القوقاز وآسيا الوسطى، عبر بناء مناطق نفوذ مترابطة ثقافيًا واقتصاديًا دون الحاجة إلى السيطرة العسكرية المباشرة.

تركيا ومشروع الظلّ العثماني في سوريا، في هذه الرؤية، ليست غاية بل تجربة أولى في بناء فضاء تركي جديد، تُختبر فيه أدوات النفوذ من التعليم إلى السوق، ومن الإعلام إلى البلديات.

تركيا ومشروع “توران الكبير” – البعد ما بعد السوري

يُنظر إلى التجربة التركية في الشمال السوري كـ“مختبر جيوسياسي” لسياسة أنقرة المستقبلية. إذا نجح هذا النموذج في تحقيق استقرار إداري دون تكاليف احتلالٍ مباشر، فقد يُعاد تطبيقه في مناطق تمتلك حساسية قومية وثقافية مماثلة، مثل القوقاز وآسيا الوسطى، في إطار إحياء المجال التركي الممتد (Turanic Space).

بهذا المعنى، تتحول سوريا إلى منصة تجريبية لمشروعٍ استراتيجي يتجاوزها، حيث تُختبر فيه أدوات النفوذ غير التقليدية: التعليم، والاقتصاد، والإدارة المدنية.

المفارقة الكبرى

سوريا اليوم ليست جمهورية ولا خلافة، بل فسيفساء من إرادات متناقضة. في الشمال، رايات دينية تحمل شعارات قديمة بلغة جديدة. في الوسط، سلطة تحاول أن تعيد تعريف الوطنية على أنقاض الحرب. وفي الجنوب، مدن تحلم بالصمت فقط.

هذا التنوّع الذي كان يومًا مصدر قوة صار لعنة. الجميع يرفع راية الوطن، لكن لا أحد يتفق على شكل الوطن نفسه.

الناس تعبوا من الخلاص، وصاروا يبحثون عن العاديّ: خبز، مدرسة، مستشفى، وكهرباء لا تنقطع. كلّ ما تبقّى من “الثورات” و“الخلافات” و“الانتصارات” مجرد صدى بعيد لأحلامٍ لم تكتمل.

ما بعد الخلافة

التاريخ لا يعود إلى الوراء، لكنه يعيد دروسه.

ربما كان سقوط الجمهورية بدايةً لتصحيحٍ طويل ومؤلم، وربما كانت تجربة الخلافة المزيّفة هي آخر امتحانٍ للمجتمع السوري قبل أن يعود إلى فكرة الدولة.

فالدولة ليست علمًا ولا شعارًا، بل عقدٌ بين الناس والعقل.

وما بين فوضى السلاح وتعب الإيمان، تولد سوريا جديدة لا تبحث عن زعيمٍ ولا خليفة، بل عن توازنٍ بسيط بين الحرية والنظام، بين الهوية والعيش.

ثانيًا: مؤسسات الدولة السورية بين التفكك والبدائل

1. التعليم

يُعدّ التعليم أحد أبرز المؤشرات على تفكك الهوية الوطنية السورية. في الشمال، فُرضت مناهج تركية معدّلة، وفي مناطق الإدارة الذاتية أُدخلت مناهج محلية، بينما بقيت مناطق الحكومة المركزية متمسكة بمناهج ما قبل الانهيار.

هذه الانقسامات أنتجت أجيالًا بذاكراتٍ متناقضة، لا تتفق على رواية وطنية واحدة. التعليم الذي كان أداة توحيد، أصبح أداة تفرقة.

وبدأت كتابة الذاكرة من جديد.

فالمدارس التي كانت تُعلّم الوطنية السورية صارت تُدرّس اللغتين التركية والقرآنية معًا. والحث على الأفكار الجهادية.

أطفال الشمال يعرفون اسم إسطنبول أكثر مما يعرفون حمص. في الجنوب، ما زالت مناهج النظام تتحدث عن “الوطن الواحد”، لكن الوطن هناك يشبه أطلال صورة.

المدرسة، التي كانت تُخرّج المواطن، أصبحت تزرع الانتماء بحسب موقع السيطرة. وهكذا، يتكوّن جيلٌ لا يعرف ما إذا كان سوريًا، أم تركيًا، أم مجرّد شاهدٍ على وطنٍ ضاع بين الخرائط.

2. الصحة

انهار النظام الصحي مع تراجع البنية التحتية ونزيف الكوادر الطبية. في المناطق الخاضعة للنفوذ التركي، أُنشئت شبكات مستشفيات بتمويل وإدارة تركية، ربطت الخدمات الصحية بالولاء السياسي والإداري لأنقرة. أما في مناطق النظام، فبقي القطاع الصحي أسير الفساد والعقوبات، مما حوّل الرعاية إلى سلعة طبقية.

3. الاقتصاد

انقسم الاقتصاد السوري إلى ثلاث دوائر نفوذ:

 * دائرة مركزية متآكلة في دمشق، محاصرة بالعقوبات.

 * دائرة تركية في الشمال تعتمد الليرة التركية وشبكات الإمداد القادمة من غازي عنتاب.

 * ودائرة رمادية في الشرق ترتكز على اقتصاد النفط والتحويلات.

   النتيجة أن السيادة الاقتصادية السورية تفككت تمامًا، وأصبحت البلاد بلا مركز مالي موحد.

   هكذا أصبحت سوريا اقتصادًا بلا قلب، وبلدًا يعيش على تنفّسٍ اصطناعي من الخارج.

4. السلطة

يحاول نظام أحمد الشرع تقديم نفسه كسلطة انتقالية قادرة على إعادة بناء مؤسسات الدولة. لكنّ التحدي البنيوي يتمثل في اعتماد الشرع على نواة استشارية ذات خلفيات أيديولوجية حركية جهادية، ساهمت سابقًا في صراعات مسلحة. هذا الاعتماد أضعف قدرته على صياغة مشروع وطني شامل، وأثار توترًا في مناطق الساحل والجبل والشمال الشرقي التي تخشى من تكرار التجربة الجهادية في السلطة.

فشل النظام الجديد حتى الآن في تثبيت الاعتراف بالمكوّنات الاجتماعية والعرقية كافة، مما جعل شرعيته محدودة في الأطراف، رغم الاعتراف الدولي النسبي بوجوده كأمر واقع.

لم تفشل السلطة في الحكم فحسب، بل فشلت في الإصغاء إلى ما تبقّى من روح البلاد.

انتخابات غير ديمقراطية ودستور لا يمثل الشعب وسلطة غير محدودة للرئيس. الجديد.

الخاتمة

سوريا ما بعد الجمهورية ليست دولة فاشلة فحسب، بل نظام متعدد الهويات والسيادات. وفي هذا السياق، يظهر النفوذ التركي كمشروع بديل عن الدولة الوطنية التقليدية.

النتيجة أن البلاد لم تعد تتصارع بين جمهورية وخلافة فقط، بل بين نموذج الدولة الحديثة ونموذج المجال العابر للحدود.

إن مستقبل سوريا، وفق المنطق البنيوي، سيتوقف على قدرتها في إعادة تعريف ذاتها ككيان وطني، قبل أن تُعاد هندستها بالكامل ضمن خرائط الآخرين.

بين جمهوريةٍ ماتت وخلافةٍ لم تولد، تعيش سوريا كفكرةٍ معلّقة.

في الجنوب تُرفع صور الماضي، وفي الشمال تُرفع أعلام المستقبل التركي، أما في الوسط، فالناس يريدون فقط كهرباء وطبابة ومدرسة.

تركيا قد نجحت في بناء نموذجٍ إداري في الشمال، لكنها لم تبنِ سوريا، بل بديلاً عنها. وإذا نجح هذا النموذج، فقد يمتد إلى القوقاز وآسيا الوسطى تحت لافتة “الوحدة الثقافية”، بينما يبقى السوريون في حيرة: هل صاروا جسرًا لمشروعٍ أكبر أم مجرد فصلٍ منسيٍّ في كتاب الجغرافيا العثماني الجديد؟

سوريا اليوم لا تبحث عن زعيمٍ ولا خليفة، بل عن معنى بسيط للدولة، دولة لا تخاف من مواطنيها، ولا يخاف مواطنوها منها.

سوريا ما بعد الجمهورية ليست دولة فاشلة فحسب، بل نظام متعدد الهويات والسيادات. وفي هذا السياق، يظهر النفوذ التركي كمشروع بديل عن الدولة الوطنية التقليدية.

النتيجة أن البلاد لم تعد تتصارع بين جمهورية وخلافة فقط، بل بين نموذج الدولة الحديثة ونموذج المجال العابر للحدود.

إن مستقبل سوريا، وفق المنطق البنيوي، سيتوقف على قدرتها في إعادة تعريف ذاتها ككيان وطني، قبل أن تُعاد هندستها بالكامل ضمن خرائط الآخرين.

بين جمهوريةٍ ماتت وخلافةٍ لم تولد، تعيش سوريا كفكرةٍ معلّقة.

في الجنوب تُرفع صور الماضي، وفي الشمال تُرفع أعلام المستقبل التركي، أما في الوسط، فالناس يريدون فقط كهرباء وطبابة ومدرسة.

تركيا قد نجحت في بناء نموذجٍ إداري في الشمال، لكنها لم تبنِ سوريا، بل بديلاً عنها. وإذا نجح هذا النموذج، فقد يمتد إلى القوقاز وآسيا الوسطى تحت لافتة “الوحدة الثقافية”، بينما يبقى السوريون في حيرة: هل صاروا جسرًا لمشروعٍ أكبر أم مجرد فصلٍ منسيٍّ في كتاب الجغرافيا العثماني الجديد؟

سوريا اليوم لا تبحث عن زعيمٍ ولا خليفة، بل عن معنى بسيط للدولة، دولة لا تخاف من مواطنيها، ولا يخاف مواطنوها منها.