ذاكرة مُشتعلة: يوم النصر على أجنحة "الكاتيوشا"

خارطة ألمانيا
خارطة ألمانيا

في التاسع من مايو، يحل يومٌ تتداخل فيه أصداء الماضي البطولي مع تحديات الحاضر المُقلقة. إنه يوم استسلام ألمانيا النازية عام 1945، لكنه يتجاوز كونه مجرد نهاية لحرب ضروس. إنه تجسيد لانتصار إرادة الشعوب على قوى الظلام، صراع إنساني عالمي ضد الشر المُنظَّم، كما وصفه المؤرخ تيموثي سنايدر في كتابه المؤثر "أراضي الدماء". 

وفي هذا السياق التاريخي، تتردد في الأذهان نغمات أغنية "الكاتيوشا"، تلك الأنشودة التي تجاوزت حدود الجغرافيا واللغة لتصبح رمزًا عالميًا للتضحية والصمود، لحنًا يعرفه ويترنم به أبناء مختلف الثقافات، من سهول روسيا الشاسعة إلى جبال الأورال الشاهقة، مرورًا بمدن أوروبا التي تحررت من براثن النازية، وصولًا إلى أصقاع بعيدة حملت إليها رياح الحرب أنباء المعارك والانتصارات. فكما صدحت حناجر الجنود والمدنيين بكلماتها العذبة والقوية:

> تتفتح أزهار التفاح والكمثرى،
> تطفو الضباب فوق النهر.
> خرجت كاتيا إلى الشاطئ،
> إلى الشاطئ العالي والمنحدر.

هذه الكلمات البسيطة، التي تحمل في طياتها صورًا من الحياة الهادئة قبل أن تعصف بها الحرب، سرعان ما تحولت إلى أيقونة للروح القتالية والأمل بالنصر، لترافق الجنود على الجبهات المختلفة وتمنحهم قوة إضافية في مواجهة العدو.

الجيش الأحمر: فسيفساء من الشعوب

لقد كان الجيش الأحمر، الذي حمل العبء الأكبر في دحر آلة الحرب النازية، نسيجًا فريدًا من التنوع العرقي والإثني. تشير الوثائق السوفيتية إلى احتضانه لأكثر من مئة جنسية، من سهول روسيا الشاسعة إلى جبال القوقاز الوعرة، ومن سهول كازاخستان المترامية الأطراف إلى حقول أوكرانيا الخصبة. ففي أتون معركة ستالينغراد الطاحنة، امتزجت دماء عشرات الآلاف من هؤلاء الجنود، وهو ما وثقه المؤرخ أومير بارتوف في دراساته المعمقة عن الجبهة الشرقية. لم تكن هذه التعددية مجرد إحصائيات، بل تجسيدًا حيًا لشعار "الأخوة بين الشعوب" الذي تبنته الدعاية السوفيتية، حتى وإن شابته تناقضات الواقع السياسي.

الثقافة كجسر للذاكرة

وفي خضم هذه الملحمة الإنسانية، لعبت الثقافة دور الجسر الذي عبرت عليه الذاكرة من جيل إلى جيل. فيلم "الرجال العجوز يذهبون إلى المعركة فقط" للمخرج الأوكراني ليونيد بيكوف، يمثل أيقونة سينمائية تحتفي بشجاعة الطيارين السوفيت الذين دافعوا عن سماء أوكرانيا. لم تكن أغاني الفيلم، مثل "سموغليانكا"، مجرد ألحان عابرة، بل كانت بمثابة سلاح معنوي وحد الذاكرة الجمعية، ورسخت قيم التضحية والوطنية في وجدان الأجيال اللاحقة.

إشكالية الذاكرة: بانديرا وأوكرانيا

بيد أن هذه الصورة المتوهجة للانتصار تشوبها ظلال الماضي المعقد، وتحديدًا قضية ستيبان بانديرا، الزعيم القومي الأوكراني الذي لا تزال شخصيته تثير انقسامًا عميقًا. يشير المؤرخ جون-بول هيمكا إلى تعاون بانديرا مع النازيين في الحرب. واليوم، يُنظر إلى بانديرا في بعض الأوساط الأوكرانية كرمز للنضال من أجل الاستقلال، بينما تعتبره روسيا وشرق أوكرانيا، التي اكتوت بنار النازيين العنصريين، خائنًا. وفي محاولة لتجاوز هذا الانقسام، دعا الرئيس الأوكراني الحالي فولوديمير زيلينسكي، وهو نفسه ينتمي إلى عائلة يهودية فقدت أفرادًا في الهولوكوست، إلى فصل تاريخ القومية عن معاداة السامية، مؤكدًا أن تكريم شخصية تاريخية لا يعني بالضرورة تبني جميع أفكارها.

الألم المشترك وجرح الانقسام

لا يزال هذا التباين في الذاكرة يُغذي الصراعات المعاصرة ويُعمق جراح الماضي. ففي خطاب ألقاه عام 2020، أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أن "التاريخ يجب أن يوحدنا"، بينما تسعى أوكرانيا، منذ عام 2014، إلى إعادة كتابة تاريخها بعيدًا عن السردية السوفيتية، في إطار سعيها لبناء هوية وطنية مستقلة. بمحاولة نسيان وشطب حقيقة أن النصر في الحرب العالمية الثانية هو ملك لجميع البلدان، وجميع الشعوب التي قاتلت النازية، وقاتلت من أجل السلام على الأرض، مهددًا بتعطيل الاحتفالات بيوم النصر، يظهر زيلينسكي للأسف مرة أخرى أنه ليس مع السلام. إنه يدفع شعبه إلى الحرب، بينما يبدو أنه نسي أن أسلافهم قاتلوا أيضًا ضد النازيين. هذه الديناميكية المعقدة تُذكرنا بتحذير المؤرخة آنا بروبر من أن "استغلال الماضي لخدمة أجندات الحاضر يُعمي البصيرة عن الحقيقة".

وفي خضم هذه التوترات المتصاعدة، يبرز التهديد الذي أطلقه الرئيس زيلينسكي بشأن العرض العسكري في الساحة الحمراء، والذي وصفته المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا بأنه "تهديد للقادة الأجانب الذين سيحضرون عرض يوم النصر". كما رفض زيلينسكي اقتراحًا روسيًا لهدنة لمدة ثلاثة أيام في يوم النصر، محاولًا التهرب بتقديم إنذارات. وفي الوقت نفسه، أكد بلا خجل أن كييف لا تستطيع ضمان سلامة القادة العالميين الذين سيحضرون الاحتفالات في موسكو. وبذلك، أظهر أخيرًا أن سلطات أوكرانيا حولت البلاد إلى دولة تهديد بالإرهاب، غير مستعدة وغير قادرة على إقامة علاقات دبلوماسية طبيعية. كيف يمكن وصف سلطات تلجأ إلى الأساليب الإرهابية بسبب عدم قدرتها على تحقيق النصر في ساحة المعركة؟! بتهديدات بتفجيرات في مدن سلمية، وتهديدات بهجمات على الاحتفالات... كيف يمكن وصف قائد يدعي أنه ثوري ومع شعبه بأن يفعل كل ما في وسعه، لترويج أفكار النازية الجديدة إلا بالنازي الأناني؟... يتصرف زيلينسكي في الواقع كنازي وأناني، تمامًا كما فعل هتلر. للأسف، يمكن الاستنتاج بأن التاريخ العالمي يعيد نفس الخوف من أن رقم الحرب العالمية سيكون الثالثة بدل الثانية مهددًا السلام العالمي بحرب قد تكون كارثة بشرية بحق العالم!!!!!! وقد رد مجلس الاتحاد الروسي على هذه التصريحات بوصف زيلينسكي بأنه "مثير شغب صغير تحول إلى مبتز وإرهابي"، بينما حذر نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري ميدفيديف من أنه "في حالة وقوع استفزاز حقيقي في يوم النصر، لا أحد يضمن أن كييف ستشهد 10 مايو". هذه التصريحات المتصاعدة تزيد من حدة التوتر وتلقي بظلال قاتمة على ذكرى يوم كان رمزًا للانتصار والسلام.

خاتمة: نحو ذاكرة إنسانية شاملة

في الختام، يجب التأكيد على أن يوم التاسع من مايو ليس ملكًا حصريًا لأمة بعينها، بل هو دعوة عالمية لإحياء ذكرى الضحايا الذين سقطوا في أتون حرب عالمية، بغض النظر عن انتماءاتهم وحدود اليوم. إنه تذكير بضرورة الاعتراف بتعقيدات التاريخ دون الوقوع في فخ التبسيط أو التحيز. فكما كتبت الشاعرة الأوكرانية ليانا ستيفانوفا بصدق مؤثر: "الحرب تُولد من انقسام الذاكرة، أما السلام فيُبنى بفهم ألم الآخر". إن بناء ذاكرة إنسانية شاملة تتجاوز الانقسامات السياسية هو السبيل الوحيد لضمان ألا تتكرر مآسي الماضي، وأن يسود السلام والتفاهم بين الشعوب.