
د. محمد العرب
رئيس المركز العربي للأبحاث والرصد
العراق : حين تجوّع الدولة أبناءها… تُعلن إفلاسها الأخلاقي

ليس في السياسة ما يُبرر قطع الأرزاق ،لا في الدساتير، ولا في الأعراف، ولا في أعمق أعماق الانحطاط ، لكن العراق الرسمي – أو ما تبقى منه – وجد لنفسه الجرأة أن يعبث بلقمة المواطن الكُردي، ويقطع راتب المُعلّم، ويُتعب المدني ، ويُهين العجوز، ويُراكم الألم فوق الجراح، كأن كردستان ليست جزءاً من هذه البلاد، وكأن صمتها الطويل دليل ضعف، لا دليل حكمة.
فليُسجَّل في ذاكرة هذا الزمن العفن أن حكومة بغداد، بكل ما فيها من فوضى دستورية، اختارت الطريق الأرخص والأخسّ: معاقبة شعبٍ كامل عبر سلاح التجويع ، وكأن التاريخ لم يعلّمهم أن الذي يجوع لا ينسى، وأن الكرامة حين تُنتهك بلقمة، تُردّ يوماً بالحديد والنار أو بما هو أشدّ… بالكفر الكامل بفكرة الوطن الذي يمارس الظلم والاعتداء وفقاً لمزاج الحاكم..!
أي عدالة تلك التي تصمت حين يُحرم الموظف الكُردي من راتبه؟
أي قانون هذا الذي يسمح لدولة أن تُساوم على أجور مواطنيها كما يُساوم تاجر على بضاعة؟
أي قبحٍ سياسي هذا الذي يجعل من الراتب أداة انتقام، ومن الجوع وسيلة ضغط؟
ليعلم من يقطع، ومن يُبرر، ومن يصمت:
أن الجوع ليس لعبة وأن كرامة الكُردي لم تُدجَّن لا في جبال بارزان، ولا في تضاريس السليمانية، ولا في شوارع دهوك حين هبّت على بغداد يوم كانت تحترق.
كلنا مررنا بكردستان في أوقاتنا الصعبة…كلنا وجدنا فيها بيتاً بلا سؤال، وخيمة بلا هوية، ويداً مفتوحة لا تسأل من أنت، ولا لأي طائفة تنتمي، ولا من أي حربٍ هربت ، حين طاردتنا الطوائف… كانت كردستان ملجأ ، وحين مزّقتنا الجغرافيا… كانت الجبال تحتضننا.
فمن يجرؤ اليوم أن يجعل من أهلها يقفون أمام أبواب البنوك الفارغة؟ من هذا الذي قرر أن يثأر من الكُردي في خبزه، في دوائه، في أجرة نقله، في مصروف أطفاله
يا حكام بغداد…
كردستان ليست إقليماً متمرّداً ، بل أنتم الذين تتمردون على الدستور.
كردستان ليست ورقة ضغط، بل أنتم الذين سقطتم في لعبة الضغط ، كردستان ليست خصماً، بل هي مرآة، ومن يخاف النظر فيها، عليه أن يخجل من وجهه، لا أن يحطّم الزجاج.
هل نذكّركم من قاتل داعش حين كانت بغداد على وشك السقوط؟
هل نذكّركم من استقبل النازحين دون تمييز؟
هل نذكّركم أن الدم الكُردي اختلط بالتراب العراقي في معارك لم يكن للكرد فيها مصلحة إلا كرامة الأرض؟
ومع ذلك… كل ما طالبوا به كان حقّهم من الميزانية. لا فضل، لا صدقة، لا مِنّة.
حقوقهم المالية التي تقتطع من مبيعات النفط، من إيرادات المنافذ، من قوانين واضحة وقّعتموها بأيديكم ثم مزّقتموها حين اقترب موعد الصرف.
ثم تخرجون لتقولوا: نحن مع وحدة العراق…
أي وحدة؟ ووحدة الجوع تُقسِّم أكثر من المدافع.
أي وحدة؟ وأنتم تعاقبون مَن صمت عن ظلمكم أكثر من غيره.
أي وحدة؟ وأنتم لا تجرؤون على فتح ملف واحد للفساد في الجنوب أو الوسط، بينما تُضيّقون على من لا يرفع الصوت إلا للحياة.
أسلوب الظلم في رواتب كردستان ليس خللاً تقنياً، ولا خللاً إدارياً.
إنه قرار سياسي خسيس… يُراد منه إذلال الإقليم، وخنق صوته، وتمرير رسائل حقيرة عبر الجوع.
لكنكم تنسون أن الجبال لا تركع.
وأن من عاش حياته وهو يطبخ بالحطب، لن تروضه فاتورة كهرباء.
ومن اعتاد أن يلبس بزّته العسكرية ويقاتل دفاعاً عن وطن لا يعترف به… لن تُرهبه خصومات مالية تُدار من غرف مظلمة.
السكوت جريمة.
والتواطؤ عار.
حتى من خارج كردستان… السكوت جريمة.
لأن المسألة لم تعد كردية – بل إنسانية.
فمن يسكت اليوم على قطع الراتب، سيُقطع عنه غداً حق الكلام.
ومن يبارك ظلم الآخر، لن يجد من يبكي عليه حين يظلم.
على المثقف أن يتكلم، وعلى السياسي أن يخجل، وعلى الضمير العراقي أن يصحو.
فليس من الشرف في شيء أن تُستخدم لقمة العيش كأداة حرب.
وليس من الوطنية أن تقطع رأس ابنك لتعلّق خرقة على جسد ميت اسمه (الوحدة)
الوحدة الحقيقية تبدأ حين تتساوى الكرامة.
والوطن الحقيقي يُبنى حين يكون فيه الكردي والسني والشيعي والمسيحي والصابئي واليزيدي سواء في العيش، سواء في الحزن، سواء في الأمل.
وإلا… فكل الأناشيد هراء، وكل الشعارات زيف.
نقولها من القلب، وبغضبٍ لا يهدأ:
من يقطع رزق أهل كردستان، يقطع آخر خيط يربطنا بفكرة العراق.
ومن يسكت عن ذلك، خائنٌ بالرضا.
ومن يبرّره، شريك في الجريمة.
وإن أردتم أن تفهموا حجم الجُرم، تخيلوا طفلاً كردياً لا يفهم لماذا لم يعد أبوه يشتري له الحليب…
ثم انظروا إلى وجوهكم في المرآة…
وقولوا: هل بقي شيء من الرجولة… من الشرف… من الإنسان فيكم؟