
د. حسين جبار
أكاديمي واستاذ جامعي
التشفي بمشاكل كوردستان العراق والصمت عن الاعتداءات عليها

نتساءل في كل مرة تنهال فيها القنابل والصواريخ الايرانية والتركية على جبال كوردستان العراق، أو تتسلل الطائرات المسيرة إلى أجوائها وقراها: هل هذا هو الوطن الذي يُفترض أن يحتضن أبناءه ويحميهم؟ هل باتت هذه “الدولة” التي تأسست باسم وارادة الجميع، عاجزة إلى هذا الحد، أو متواطئة إلى هذا المدى؟ أهي رسائل تهديد سياسية وعسكرية، أم سلوك منحرف ومزمن لحكومات توارثت إهمال الكورد والتعامل معهم كطرف ناقص الوطنية؟
ماذا يعني أن تنحاز الدولة، ومعها قطاع واسع من الرأي العام المضلل، إلى دول معتدية طامعة ضد جزء أصيل من شعبها؟ ماذا يعني أن يُعامل الكورد كشماعة تُعلق عليها أزمات بغداد وفشل حكوماتها؟ وأن يُصوروا كأعداء كلما طالبوا بحقوقهم أو احتجوا على التهميش؟
في الجنوب، حين تشتعل مشكلة عشائرية، تتحرك الدولة بكل أدواتها الأمنية والاجتماعية والعشائرية لإخماد الفتنة. لكن حين تنشب أزمة في كوردستان، أو يحدث قتال داخلي، تغيب الدولة ويشمت الكثيرون. الدولة تراقب بصمت أو تقوم بالتحريض الضمني، وكأن الاقليم خارج حدود الوطن.
قبل ايام قُصفت أربيل وكركوك، وقبلها عشرات القرى الممتدة من زاخو إلى حاج عمران، تارة على يد تركيا، واخرى على يد إيران. وكل ذلك دون موقف رسمي حازم، أو حتى إدانة لفظية واضحة! بل إن بعض الأصوات النيابية والسياسية، المحسوبة على جهات موالية لطهران تبرر القصف، وأحيانا تدعو إليه، وكأنه “عمل وطني”.
أليس من الغريب والمعيب أن تُقصف عاصمة إقليم دستوري معترف به، ويُعامل الحدث من قبل بعض الساسة وكأنه شأن خارجي؟ أليس من المخجل أن يُقطع التمويل عن الإقليم في ذات الوقت الذي تتساقط فيه القنابل على رؤوس أهله؟ كأن هناك من يريد معاقبة الكرد في أرزاقهم بعدما عوقبوا في أمنهم واستقرارهم!
ليست المشكلة في القصف ذاته فقط، بل في الجرح الوطني العميق، في الهوة النفسية والعاطفية المتزايدة بين الكورد وبقية مكونات العراق. كيف نطالب الكورد بالشراكة والانتماء، وهم يُعامَلون كأجانب؟ كيف نُقنعهم بأن “العراق وطن الجميع”، وهم يُقصفون ويُجوعون ويمنعون من تصدير ثرواتهم، بينما تكون الولاءات لأجندات خارجية على حسابهم؟
لقد اعتادت الحكومات العراقية منذ تأسيس الدولة على معاملة الكورد كطرف مشكوك في ولائه، وسجلت تاريخا طويلا من القمع والتهميش، من مجازر الأنفال إلى قصف حلبجة، ومن الحصار المالي إلى التغييب السياسي. واليوم، بعد كل هذه التراكمات، نتساءل ببلاهة: لماذا لا يشعر الكورد بالانتماء؟!
الوطنية لا تُفرض بالقوة، ولا تُبنى بالقصف والتجويع واطلاق النعوت الرخيصة. الوطنية تُبنى بالعدل، وبالمساواة، وباحترام كرامة الإنسان، خصوصا في لحظات المحن. وإذا كانت الحكومة عاجزة عن صد اعتداءات الجيران، أفلا تملك الجرأة لتقول كلمة مواساة؟ كلمة حق لا تكلفها شيئا لكنها تعني الكثير لمن ينتظر من يطمئنه بأنه ما زال محسوبا على هذا الوطن وله حق فيه.
لا نطلب من الدولة أن تساير كل مطالب الكورد، بل أن تعاملهم كمواطنين كاملي الحقوق، لا كمشتبه فيهم دائمين. فحين يتحول الظلم إلى قاعدة، ويتحول التبرير إلى ثقافة، فإننا لا نخسر الكرد فقط، بل نخسر ما تبقى من ملامح دولة.
أي وطن هذا الذي لا يقف مع شعبه؟ وأي عراق هذا الذي يُقصف فيه جزء من أرضه، ويتهم أهله بدلا من أن يدافع عنهم؟!
إن العدالة والوطنية لا تتجزآن، والانتماء لا يتحقق بالقوة، ولا يُبنى بالإهمال. فإما أن نعيد بناء الثقة على أساس احترام متبادل، وإما أن نصارح الكورد بما في نفوسنا من غدر تجاههم ونسلبهم حقهم التاريخي هذا الوطن.
وإن خسرنا كوردستان اليوم أو غدا، فلن يكون ذلك بسبب الانفصال، بل بسبب التضييق، والتشفي، والاهمال.