 
                        د. ابراهيم احمد سمو
كاتب كوردي
البارزانيون… ذاكرة لا تموت وشهادة على طريق كوردستان
 
                    على ضوء رسالة الرئيس مسعود بارزاني – المرجعية الكوردستانية – بمناسبة يوم جينوسايد البارزانيين، تتجدد أمامنا معاني الوفاء والشموخ، إذ تحولت كلماته إلى بوصلة أخلاقية وسياسية تذكّر الأجيال بأن الإبادة لم تكن مجرد مأساة تاريخية، بل امتحانًا للهوية والصمود. في رسالته، يعيد بارزاني صياغة معنى التضحية في الوجدان الكوردي، مؤكدًا أن دماء الشهداء لم تُسفك عبثًا، وأن الطريق نحو كوردستان الحرة يظل ممهدًا بعزم من لم ينكسروا رغم المجازر. من هنا، يصبح هذا اليوم ليس فقط مساحة للاستذكار، بل عهدًا متجددًا للمضي على خطى الشهداء، وتحويل الألم إلى قوة تدفع نحو مستقبل أكثر عدلًا وكرامة للشعب الكوردي
في مثل هذه الأيام من كل عام، تتجدد الذكرى الأليمة للإبادة الجماعية التي طالت البارزانيين، وتعود الجراح لتنزف من جديد، لا لأنها لم تلتئم بعد، بل لأنها محفورة في ذاكرة كل كوردي، شاهدة على حجم الظلم الذي لحق بهذا الشعب، ورمز لفداء لا يقاس بثمن. فالحديث عن البارزانيين والإبادة ليس أمرًا جديدًا، إذ وُلد البارزانيون مشروع فداء منذ اليوم الأول، وحملوا على عاتقهم قسمًا أبديًّا بالمضي في طريق النضال، كبارًا وصغارًا، رجالًا ونساءً، حتى تتحقق كل أهداف كوردستان وتُرفع رايتها شامخة فوق الجبال والمدن.
نستحضر في هذه الذكرى أرواح ضحايا الإبادة بعلو الاحترام والإجلال، فهُم ليسوا مجرد أرقام في كتب التاريخ، بل أسماء كتبت بالدم معنى التضحية. وواجبنا جميعًا، كلٌّ بحسب طاقته وطريقته، أن نعبر عن هذه المناسبة المؤلمة، لا كطقس عاطفي عابر، بل كمسؤولية أخلاقية وسياسية وإنسانية. إن دماء أولئك الشهداء لم تذهب سدى، بل صارت نهرًا يغذّي شجرة الهوية الكوردية، وجدارًا منيعًا يحمي إرادة شعب بأكمله.
حين نستذكر هذه الفاجعة، فنحن لا نمارس طقس الحزن فقط؛ نحن نرسل رسالة مزدوجة: أولًا، أننا لن ننسى ولن نترك الرفات المجهولة في طي النسيان، بل سنظل نضع الورد على قبور من عرفناهم، والدعاء في قلوبنا لمن لم نجد لهم قبرًا. وثانيًا، أن هذا الاستذكار كشف دائم لمظالم الأعداء، الذين لم يكتفوا بالقتل والذبح، بل تركوا آلاف الجثامين مجهولة المصير، وجعلوا من الأنفال سلسلة متصلة من الخراب والدمار.
حملات الأنفال ليست ذكرى عابرة، بل هي صفحة سوداء لا تُطوى، فقد خرّبت القرى، وغيّرت الطبيعة والديموغرافيا، وأبقت آلاف العائلات معلّقة بين الأمل واليأس، تبحث عن أثرٍ لأحبتها. والبارزانيون كانوا في قلب هذه المأساة، يدفعون ثمن انتمائهم لكوردستان، ليصبحوا رمزًا خالدًا للفداء والإصرار.
في هذه الذكرى، أكتب كمواطن كوردي يتابع شؤون أمته، ويحمل في قلبه محبة لأرضه وشعبه، وأجد في قلمي واجبًا لا خيارًا، أن أسطر كلمات في حضرة أرواح البارزانيين الذين ذهبوا ضحية الجينوسايد. أكتب كلمات لعلها تسهم في رفع المعنويات، ولعلها تذكّرنا بأن ذكراهم ليست مجرد حدث سنوي، بل ظلّ دائم على وجداننا، لا يغيب ولا يبهت.
إن الحديث عن هؤلاء الشهداء طويل، والكلمات مهما تكررت قد تبدو أحيانًا متشابهة، لكن في التكرار قوة، لأن التكرار في مثل هذه القضايا ليس عبئًا، بل ضرورة حتى لا يُطوى الملف ولا يغيبوا عن البال. فسيأتي اليوم الذي نعرف فيه مصير جميع الرفات، ونودّعهم جسدًا، لكن أرواحهم ستظل حيّة وخالدة في ضميرنا.
لقد وقف هؤلاء الشهداء – ومن قبلهم أفواج من شهداء كوردستان – في رحلة بدأت من أجل الوطن، ولم يعرفوا لنهايتها طريقًا، فالنضال الكوردي لم يكن يوماً خيارًا مؤقتًا، بل قدرًا مشتركًا. وهذا الشعب الذي قاده البارزاني الأب، لم يتوقف عن المسير، لأنه يرى في نهاية الطريق راية كوردستان ترفرف على قمم الجبال وأسطح المباني، رمزًا للأمان والكرامة. ومن صمودهم ودمائهم استمدّ الكورد معنى الإصرار، وصار هذا الإصرار عنوانهم في الداخل والخارج، علامة قوة وهوية لا تُمحى.
واليوم، من واجبنا – نحن الأحياء – أن نحول هذه الذكرى إلى فعل، وأن نطالب حكومة كوردستان، ومعها الرأي العام، بالضغط على الحكومة الفيدرالية لإنصاف الضحايا وعائلاتهم، وفق الدستور والعدالة. فالإبادة ليست حدثًا مضى، بل جرح يحتاج إلى اعتراف، وتعويض، وضمان ألا يتكرر.
إن شعبًا قام على الانتماء والتضحية من أجل كوردستان – الأرض، واللغة، والإنسان – لن ينسى هذه المآسي. بل يجب أن تتحول هذه النضالات إلى مناهج تُدرَّس للأجيال القادمة، ليعرفوا أن شعبهم لم يُقدِّم الدم من أجل الأرض فقط، بل من أجل الحق في الحياة، والحق في الدولة، والحق في أن يكون كوردستان وطنًا لجميع مكوناته.
إن ذكرى الإبادة الجماعية للبارزانيين ليست مجرد يوم حزين، بل عهد متجدد بأن دماء الشهداء ستظل وقود الأمل، وأن البارزانيين – ومعهم كل شهداء كوردستان – خالدون في قلوبنا، ما دامت راية كوردستان ترفرف في السماء