
مهند محمود شوقي
محرر
الأنفال والبارزانيون.. من المقابر الجماعية إلى العقوبات الاقتصادية

في صيف عام 1983، وتحديدًا في 31 يوليو، أمر نظام صدام حسين باعتقال نحو 8,000 من رجال وعوائل عشيرة البارزاني من مناطق بارزان، ونقلهم إلى صحارى جنوب العراق حيث أُعدموا ودُفنوا في مقابر جماعية لا تزال شاهدة على جريمة مروعة تُعد من أبرز فصول الإبادة الجماعية في تاريخ العراق الحديث. تلك الحملة لم تكن سوى تمهيد لحملة الأنفال الكبرى التي نُفذت بين فبراير وسبتمبر 1988، وأسفرت عن مقتل ما يقرب من 182,000 مدني كردي، وتدمير أكثر من 4,000 قرية، وتهجير أكثر من مليون شخص. وقد اعتُبرت هذه الحملة لاحقًا جريمة إبادة جماعية من قبل المحكمة العراقية العليا، وتم توثيقها من قِبل منظمات دولية مثل "هيومن رايتس ووتش" و"أمنستي".
ورغم أن العراق دخل في مرحلة جديدة بعد عام 2003، وأُقر دستور 2005 الذي يعترف بالفيدرالية ويكفل الحقوق القومية للكرد، إلا أن السياسات المركزية القديمة لم تتلاشَ تمامًا، بل عادت في ثوب اقتصادي وإداري جديد. ففي السنوات الأخيرة، وخصوصًا منذ عام 2023، بدأت الحكومة الاتحادية في بغداد باستخدام سلاح الرواتب والموازنات كورقة ضغط سياسي ضد إقليم كردستان. ففي يونيو 2025، علقت وزارة المالية العراقية صرف رواتب موظفي الإقليم لأسباب تتعلق بـ"عدم التزام الإقليم بتسليم الإيرادات"، رغم أن حكومة كردستان أكدت مرارًا أنها سلمت ما اتُفق عليه وفق قانون الموازنة. وقد ترك هذا القرار أكثر من مليون موظف دون راتب منذ يونيو، مما أدى إلى احتجاجات شعبية وتنديد واسع من الأطراف السياسية في الإقليم.
وفي موازاة ذلك، تعرضت منشآت الطاقة في الإقليم لهجمات متكررة بطائرات مسيرة، استهدفت حقول الغاز في خورمور وحقول النفط في كركوك وسنجار، وكان أبرزها هجوم 26 أبريل 2024 الذي أسفر عن مقتل أربعة عمال وإيقاف الإنتاج جزئيًا. ثم تصاعد التصعيد، ففي منتصف يوليو/تموز 2025، استُهدف إقليم كردستان بـ14 طائرة مسيرة مفخخة خلال أربعة أيام متتالية بين 14 و18 من الشهر، في موجة هجمات تُعد الأعنف من نوعها على الإطلاق ضد البنية التحتية للطاقة في الإقليم.
ورغم كل هذه الأزمات، لم تتخلَّ حكومة إقليم كردستان عن نهج الحوار والانفتاح السياسي في تعاملها مع بغداد. فمنذ تشكيل الحكومة التاسعة برئاسة مسرور بارزاني، تمسكت أربيل بالدستور كمرجعية لحل الخلافات، وقدمت عدة مبادرات لحلحلة الملفات العالقة، ووقعت اتفاقيات ضمن قانون الموازنة الثلاثي، وأبدت مرونة واضحة في القبول بمقترحات غالبًا ما كانت مجحفة.
ورغم الحصار المالي والهجمات الأمنية، واصلت حكومة الإقليم تنفيذ مشاريع استراتيجية، منها مشروع "روناكي" للكهرباء، ومشروع "حسابي" الرقمي للشفافية المالية، إضافة إلى برامج تطوير البنية التحتية والمياه والصحة والتعليم والطاقة. وتُعد هذه المشاريع بمثابة رد حضاري وسلمي على سياسات التهميش والعقاب الجماعي، وتُظهر أن الإقليم يرد على الضغوط بالتنمية لا بالصدام.
ولعل ما يجري اليوم، من تأخير للرواتب وتكرار استهداف البنية التحتية، يعيد إلى الأذهان فصولًا مظلمة من تاريخ الكرد مع السلطة المركزية. فالأنفال لم تكن مجرد مجزرة، بل كانت إعلانًا بأن الكرد غير مرحب بهم في عراق مركزي استبدادي. واليوم، حينما يُستهدف الإقليم اقتصاديًا وأمنيًا دون رد واضح من بغداد، فإن ذلك يُعيد فتح الجروح ذاتها، وإن اختلفت الأدوات.
إذا كانت الدولة العراقية تسعى فعلًا إلى بناء شراكة حقيقية، فإن أول شروط ذلك هو وقف استهداف كردستان، سواء بالمسيرات أو بالقرارات المالية، واحترام الاتفاقات الدستورية بدلًا من الالتفاف عليها. فالعراق الموحد لا يُبنى بالتجويع ولا بالإخضاع، بل بالعدالة واحترام الإرادة الحرة لكل مكوناته.