اليوم الذي احترقت فيه الأرض.. أطفال خُطفوا من الطفولة

اليوم الذي احترقت فيه الأرض.. أطفال خُطفوا من الطفولة
اليوم الذي احترقت فيه الأرض.. أطفال خُطفوا من الطفولة

بمناسبة ذكرى جينوسايد الإيزيديين، 2014/8/3 هذا المقال…..

في مثل هذا اليوم، تتجدد الفاجعة وتعود إلى الذاكرة رائحة الغدر التاريخي الذي جعل الأرض تحترق تحت أقدام الأبرياء. كأنّ الجبل كان الملاذ الوحيد؛ من لحق به احتمى وصمد، ومن لم يسعفه الحظ وقع في أيدي الغدر، فسُلبت منه الحياة، وتحوّلت ملامح البشر إلى حكايات ألم. آلاف الأرواح أُزهقت، ومجازر تُبُودلت صورها على شاشات التلفاز أمام عيون العالم، حتى أصبح الذبح مشهدًا يوميًا لا يصدّقه العقل، وكأنّ القسوة وجدت أرضًا خصبة لتزرع أبشع فصولها.

كانت الأبواب تُدكّ، والمراقد الدينية تُفجَّر بلا رحمة، والرموز المقدسة تُهان أمام صمت مطبق. أطفالٌ خُطفوا من أحضان أمهاتهم ليُحوَّلوا إلى جنود صغار، يُغسل دماغهم بسموم الفكر المتطرف، ويُدفعون نحو الموت كمن يُساق إلى نزهة. انتحاريون صغار يولدون من رحم مأساة أكبر، وكأنّ هذا الخراب خُلق ليبتلع جيلاً كاملاً، ويترك أثره ندبةً على جبين الإنسانية.

كل ما جرى لم يكن مشهدًا من فيلم سينمائي، ولا فصلًا من كتب التاريخ التي تروي أساطير بعيدة، بل كان حقيقة دامية في القرن الحادي والعشرين. دمارٌ شامل باسم الإسلام، سبيٌ ونهبٌ وقتلٌ في كل حدب وصوب تحت راياتٍ سوداء رفعت آيات وأحاديث وادّعت الدفاع عن الدين، بينما الإسلام بريء من كل ما ارتُكب باسمه. أيّ يوم هذا الذي نُسِج من خيوط الدماء والصراخ؟ أيّ يوم ذاك الذي جعل العالم يتساءل: هل نحن أمام مشهد من العصور المظلمة، أم أنّ الظلام اختار أن يعود إلينا بوجه أكثر توحشًا؟

كنا نحن الشهود الأحياء، نرى النجاة تأتي من هنا وهناك، نرقب طائرات تُسقط بعض المعونات، ونسمع وعودًا من على الشاشات، بينما البكاء يملأ الوجوه، والجوع يُرسم على ملامح الأطفال الذين لم يفهموا بعد معنى الخراب. كل ذلك يجرّنا إلى سؤال مؤلم: كيف مرّ هذا اليوم دون أن يتوقف الزمن إجلالًا لدماء الأبرياء؟ ومع ذلك، لم يتوقف العالم، بل وُجد من أجل أن يتحرّك الكورد خاصةً في إحياء الذكرى، ورفع المطالبات أمام البرلمانات، والمطالبة بالاعتراف بالجِينوسايد وتعويض الضحايا يجدر بنا نحن الكورد أن نتذكرها كل عام؟ ففيها نساهم في المسيرات، ونرفع الأعلام، ونقدّم الشكاوى إلى الأمم المتحدة والعالم، ولا نخفي أنّ العالم كان معنا وما زال حتى اليوم ؛ والفرصة ما زالت قائمة في ظلّ مبادئ حقوق الإنسان وحقّ تقرير مصير الشعوب

لقد أنستنا الفاجعة العيد بالأمس، وأخذت منا بقايا السعادة، وطمست كل أثر للفرح. جرّتنا إلى ذاكرة الصفر، إلى العودة القاسية إلى عام 2014، حيث الدم ينزف من جديد، والرقاب تُقطع على مرأى العالم، والأطفال يُساقون إلى معسكرات تدريب شاقة تُفرغهم من ملامح طفولتهم. هناك، في تلك المعسكرات، محوا أسماءهم، وقطعوا صلتهم بآبائهم وأجدادهم، حتى نسوا من هم ومن أين جاؤوا، ليُعاد تشكيلهم سيوفًا قاتلة، قد تقتل في يوم ما آباءهم وأمهاتهم دون أن ترتجف أيديهم.

وأنا الكاتب، لم تمر ذكرى إلا ووجدتني أميل إلى الكتابة، كأنّ القلم يطلب حقه في البوح كلما عاد هذا اليوم. كيف نعيش بسلام، وفكر الموت ما زال يتربص؟ كيف نطمئن، والجذور التي أنبتت هذا الخراب لم تُقتلع بعد؟ سيبقى الخوف يسكننا ما لم ننتهِ من هذا الفكر المتوحش، وما لم نواجهه مواجهةً فكرية حقيقية، لا مجرد ردود أفعال عابرة.

إنّ الألم الذي عشناه، وما زلنا نعيشه، ليس مجرد حكاية من الماضي، بل حاضرٌ يطرق أبوابنا كل يوم. لن نرتاح حتى يعود كل من شُرّد، وحتى يستعيد الأطفال أسماءهم وملامحهم، وحتى تُزال تلك السيوف التي صيغت من أجسادهم البريئة. لن نجد الأمان ما لم يتحقق العدل، وما لم يتحول الدرس الذي تركته لنا تلك الفاجعة إلى وعيٍ عميق يحمينا من تكرارها.

في مثل هذا اليوم، نكتب ليس من باب التوثيق فقط، بل من باب المقاومة، من باب أن نحفر في الذاكرة أن ما جرى لا يمكن أن يُنسى، ولا يجب أن يُنسى.