
د. سامان سوراني
أكاديمي كوردي
جمهورية العراق دولة اللادولة

منذ سقوط النظام السياسي عام 2003، بات العراق نموذجاﹰ مركباﹰ لفكرة "دولة اللادولة"، حيث تتقاطع مظاهر الوجود الشكلي للمؤسسات مع غياب فاعليتها الفعلية، ويهيمن منطق الجماعات والهويات الفرعية على منطق الدولة الوطنية الحديثة.
لو حاولنا مقاربة هذا المفهوم من منظور بنيوي ووظيفي، دون السقوط في التبسيط السياسي أو الإدانة الخطابية، علینا أن نسرد المفهوم الإشكالي لـ"اللادولة" أولاً، فمصطلح "اللادولة" لا يعني غياب الدولة ككيان جغرافي أو كمؤسسات رسمية، بل يشير إلى اختلال في وظائف الدولة الأساسية: احتكار العنف المشروع، تقديم الخدمات العامة، تنظيم الاقتصاد، وضمان الأمن القانوني والاجتماعي.
إن دولة "اللادولة" هي تلك التي تفقد قدرتها على بسط سلطتها بشكل عادل وموحد، وتتراجع أمام قوى موازية أو فوق-دولتية.
لقد تأسست الدولة العراقية بعد 2003 على قاعدة هشّة، فمع تحرير العراق بعد الغزو الأمریكي وسقوط نظام صدام، تأسس النظام الجديد على أساس محاصصة طائفية وعرقية، أفرغت مفهوم الدولة من مضمونه المدني، وأعادت إنتاج السلطة على أساس الولاء للهويات الفرعية لا للمواطنة.
وتم توزيع المناصب وفقاً لاعتبارات طائفية وقومية لا مهنية، ما أنتج مؤسسات مشلولة أو مسيّسة أو فاسدة، غير قادرة على القيام بوظائفها.
کیف تفكکت السيادة و برز موضوع ازدواجية السلطة؟
من أبرز مظاهر اللادولة في العراق هو وجود سلطات موازية للدولة، مثل الميليشيات المسلحة التي تعمل خارج إطار المؤسسة العسكرية الرسمية، بل وتتفوق عليها أحياناً في التمويل والتسليح والنفوذ. و هناك نفوذ خارجي تمارس من قبل قوى إقليمية ودولية، بحيث لم يعد القرار السيادي العراقي خالصاﹰ أو مستقلاً. وهناك اقتصاد غير رسمي تُديره شبكات مصالح محلية ودولية، تتجاوز رقابة الدولة ومؤسساتها.
أما في ما يخص المركزية المعرقلة وعلاقة بغداد بإقليم کوردستان ضمن سياق اللادولة، فيمکن تمييز الدور السلبي لحكومة العراق الاتحادية في إدارتها للعلاقة مع إقليم كردستان كواحد من تجليات غياب الرؤية المؤسسية.
فعوضاً عن التعامل مع الإقليم وفق الدستور العراقي بوصفه شريكاﹰ فدرالياﹰ، يُنظر إلی الیه كطرف متنازع لا كمكوّن بنيوي من الدولة. فالخطاب السياسي الموجّه من بغداد، والسياسات المالية والاقتصادية التي تُمارس تجاه شعب إقليم کوردستان – وعلى رأسها مسألة حصة الموازنة ورواتب الموظفين – تُظهر رغبة في فرض إرادة سياسية أكثر من رغبة في بناء تفاهم دستوري دائم.
وقد أسهم هذا التوتر المستمر في إضعاف صورة الدولة كمرجعية عليا، وأتاح للقوى المحلية والإقليمية أن تستثمر في الانقسام القائم، مما زاد من تفكك السيادة الداخلية وأضعف الثقة المتبادلة بين مكوّنات الدولة.
بالإضافة الی مسألة غياب العدالة الاجتماعية وسيادة الفساد، إذ تشير تقارير المؤسسات الدولية، ومنها منظمة الشفافية الدولية، إلى أن العراق من بين الدول الأعلى فساداﹰ في العالم.
هذا الفساد المستشري لا يقتصر على اختلاس الأموال، بل يشمل منظومة توزيع الموارد والوظائف والفرص، ما يُعمّق الإحساس الجمعي بانعدام العدالة، ويغذي ثقافة اللامبالاة أو التمرد على النظام القائم. ففي عام ٢٠١١ و من ثم في تشرين 2019 شاهدنا انتفاضات شعبية كصوت للدولة الغائبة في بغداد وبقية محافظات جنوب العراق احتجاجاً على تردّي الأوضاع الاقتصادية للبلد، وانتشار الفساد المالي الإداري والبطالة، إذ رفع شعار "نريد وطن". لم یکن رفع هذا الشعار مجرد تعبير عاطفي، بل خلاصة إدراك شعبي بأن الدولة العراقية، بصيغتها الراهنة، عاجزة عن تمثيلهم أو حماية حقوقهم أو تلبية احتياجاتهم. أما الرد العنيف على تلك التظاهرات مثّل دليلاً إضافياﹰ على تغوّل السلطات غير الرسمية وتآكل البنية الديمقراطية في العراق.
الدولة الحديثة تقوم على مبدأ احتكار السلاح بيد الدولة، وعلى العدالة، والمواطنة المتساوية، والشراكة الوطنية. لكنّ العراق اليوم يفتقر إلى هذه الأسس، إذ باتت السلطة کما ذکرناه سابقاﹰ تُدار من قِبل توازنات القوة المسلحة لا من قِبل الدستور والقانون.
في ظل هذا الواقع، لا يمكن الحديث عن شراكة حقيقية بين مكونات العراق. فالكورد، وهم شريك أساسي في العملية السياسية، يُعاملون كمكوّن ثانوي، وتُهدر حقوقهم الدستورية في الموازنة، والرواتب، والنفط، والحدود الإدارية. والأسوأ من ذلك، يتعرّض إقليم كوردستان بشكل متكرر لهجمات بالصواريخ والطائرات المسيّرة، تستهدف البنية التحتية، والمطارات دون أي رد فعل جاد من بغداد، ما يطرح تساؤلات خطيرة حول مفهوم "الدولة الواحدة". للأسف نحن لا نری أفق لبناء الدولة في العراق ما دامت الميليشيات فوق القانون وحقوق الشركاء تُنتهك.
وإذا لم تُحل هذه الإشكالات البنيوية، وإذا لم تُعَد هيبة الدولة عبر تفكيك منظومة السلاح الموازي، وضمان الحقوق الدستورية لجميع المكونات وعلى رأسهم شعب كوردستان، فإن الحديث عن بناء دولة في العراق سيبقى مجرد شعار.