اللجنة البرلمانية لحل القضية الكردية في تركيا انطلاقة جديدة أم لحظة رمزية؟

اللجنة البرلمانية لحل القضية الكردية في تركيا  انطلاقة جديدة أم لحظة رمزية؟
اللجنة البرلمانية لحل القضية الكردية في تركيا انطلاقة جديدة أم لحظة رمزية؟

المقدمة: 

في خطوة اعتُبرت تاريخية من قبل بعض المراقبين، عقدت اللجنة البرلمانية التركية المؤلفة من 51 عضواً أول اجتماعاتها في الخامس من آب/أغسطس 2025، في أعقاب الإعلان الرمزي عن إلقاء السلاح من قبل تنظيم حزب العمال الكردستاني (PKK) في 11 تموز بمدينة السليمانية بإقليم كوردستان – العراقية. وقد حظي الاجتماع باهتمام واسع على المستويين السياسي والمجتمعي، بالنظر إلى دلالاته وما قد يترتب عليه من تحولات داخلية في بنية الدولة التركية وتعاطيها مع القضية الكردية.

أولاً: منطلقات اللجنة: تأكيد شرعية الحل البرلماني:

جاءت كلمات رئيس البرلمان التركي نور الدين جليك Kurtulmuş لتعكس مسارًا سياسيًا جديدًا يتسم بالواقعية والحذر، بعيدًا عن الوعود المطلقة أو الشعارات الكبرى. أكد Kurtulmuş أن اللجنة لا تهدف إلى صياغة دستور جديد أو حسم القضايا دفعة واحدة، بل هي انعكاس لإرادة جديدة تتبنى البرلمان كعنوان شرعي ووحيد للحل السياسي، بعيداً عن الحسابات الضيقة والمقاربات الأمنية وحدها.

وشدد على أن ما يحدث ليس نتيجة صفقة أو مساومة، بل هو انعكاس لإرادة الشعب التركي بأطيافه كافة، في السعي نحو سلام دائم، وتجاوز مرحلة مظلمة من تاريخ البلاد عانت خلالها من الإرهاب والانقسام والدمار.

ثانياُ: خطاب أخلاقي واجتماعي يعزز قيم الأخوّة:

تبنّى رئيس البرلمان خطابًا يركز على القيم المجتمعية الجامعة، فاستحضر مواقف التضامن التاريخي بين الأتراك والأكراد، لا سيما في ساحات القتال مثل معركة جناق قلعة، مشددًا على أن ما يجمع بين المكونات المجتمعية التركية أكبر من أن يُقزَّم بخلاف سياسي أو أيديولوجي.

كما أكد على أن اللجنة تُعد دعوة لتعزيز النسيج الاجتماعي، وإعادة صياغة العلاقة بين مكونات المجتمع على أسس من الأخوة والعيش المشترك والاحترام المتبادل، رافضًا محاولات القوى الإمبريالية والدولية فرض واقع الانقسام من خلال أدوات الإرهاب.

ثالثاً: شمولية وتشاركية: نحو عملية ديمقراطية:

لفت Kurtulmuş إلى أهمية إشراك كافة فئات المجتمع، بما في ذلك الجامعات ومنظمات المجتمع المدني، في أعمال اللجنة، موضحًا أن لا أحد يجب أن يُستثنى من هذه العملية. ورأى أن الشرعية التمثيلية التي تتمتع بها اللجنة - حيث تضم أحزاب تمثل 98% من الشعب التركي - تمنحها ثقلاً معنويًا وأخلاقيًا لمواجهة أي استفزازات أو محاولات لإفشال المسار.

كما شدد على أن اللجنة ستعمل بروح الاستشارة والمداولة، بعيدًا عن الإملاء أو الانفراد، مع اعتماد الشفافية الكاملة في كل مراحل العمل، وضمان تدفق المعلومات عبر القنوات الرسمية فقط، لمنع أي تشويش إعلامي أو سياسي قد يفسد المسار.

رابعاً: الجدل حول التسمية: عناوين تعكس الرؤية:

قبل انطلاق أعمال اللجنة، أثارت تسميتها جدلاً واسعاً بين الأحزاب السياسية. فقد اقترح حزب العدالة والتنمية (AKP) اسم “تركيا بدون إرهاب”، وهو ما رفضه حزب الشعوب الديمقراطي (DEM) مطالبًا باسم “لجنة السلام والمجتمع الديمقراطي”. من جهته، دعا حزب الحركة القومية (MHP) إلى تسميتها “لجنة الوحدة والتضامن الوطني”، فيما اقترح حزب الشعب الجمهوري (CHP) اسم “لجنة السلام المجتمعي والعدالة والتوافق الديمقراطي”، معتبرًا أن الاسم يجب أن يعكس الجوهر الديمقراطي والعدلي للعملية.

ويُنتظر أن يُحسم اسم اللجنة رسميًا خلال الجلسات المقبلة، إما بالتوافق بين الأطراف أو عبر تصويت داخلي، مما سيعكس مستوى الانسجام السياسي أو حجم الخلافات حول آلية التعاطي مع هذه المرحلة.

خامساً: آفاق العمل ومخاطر الاستفزاز:

من المهام الأساسية المنوطة باللجنة، بحسب تصريح Kurtulmuş، اقتراح تعديلات وتشريعات قانونية تعقب عملية وقف إطلاق النار الشامل، بما يسهم في تثبيت دعائم الاستقرار الدائم. ومع أن اللجنة ليست مسؤولة عن كتابة دستور جديد، فإنها معنية بصياغة “جُمل أخوّة” على حد تعبير رئيس البرلمان، تُعزز الثقة وتؤسس لمستقبل قائم على العدالة والمساواة والحرية.

ولم يغفل الخطاب التحذير من محاولات الإفساد والاستفزاز، داعيًا إلى الحذر من الحملات الإعلامية أو السياسية التي قد تهدد بانهيار العملية، مشيرًا إلى أن المناعة المجتمعية والسياسية، إضافة إلى تمثيل المؤسسات الأكاديمية والمدنية، ستكون الضامن الأهم لاستمرار المسار.

الخاتمة: لحظة اختبار للسياسة التركية:

تشكل هذه اللجنة اختبارًا حقيقيًا لقدرة النظام السياسي التركي على التحول من المقاربات الأمنية الأحادية إلى حلول سياسية ديمقراطية شاملة. وبينما لا تزال الشكوك قائمة حول مدى جدية وجذرية هذه الخطوة، فإن نجاح اللجنة في خلق مناخ حوار حقيقي، بعيدًا عن الاستقطاب والمزايدة، قد يمهد الطريق لأكثر من مجرد هدنة مؤقتة، بل إلى سلام دائم ومستقر طالما انتظرته تركيا.