السليمانية أمام الحسابات الداخلية وتوازنات الإقليم

السليمانية أمام الحسابات الداخلية وتوازنات الإقليم
السليمانية أمام الحسابات الداخلية وتوازنات الإقليم

لم تكن أحداث الأسبوع الماضي في السليمانية مجرّد مواجهة أمنية عابرة، بل مثّلت لحظة مفصلية في تاريخ الاتحاد الوطني الكردستاني، وأحد أكثر الانفجارات الدموية في قلب مدينة طالما اعتُبرت مركزًا للحراك السياسي والثقافي في كردستان العراق. الهجوم الذي شنّته قوات تابعة للحزب على فندق "لالازار"، وانتهى باعتقال لاهور شيخ جنكي وشقيقه بولات طالباني وأنصاره، فتح الباب واسعًا أمام أسئلة عميقة: ما هي جذور هذا الصراع العائلي؟ ما دور القوى الإقليمية والدولية فيه؟ وما انعكاساته على مستقبل العملية السياسية في كردستان والعراق؟

 

أولاً: خلفية الصراع بين أبناء العم:

1- من الشراكة إلى العداء

بعد رحيل الرئيس العراقي الأسبق جلال طالباني عام 2017، دخل الاتحاد الوطني الكردستاني مرحلة من الاضطراب. فبينما كان الحزب قائمًا على شخصية كاريزمية جامعة، تفكك لاحقًا إلى أجنحة متنافسة. في عام 2020، انتُخب بافل طالباني ولاهور شيخ جنكي رئيسين مشتركين للحزب، في ظاهرة تعد غريبة على الاحزاب الكردية في الاقليم، وهي تجربة استنسختها الاتحاد الوطني من حزب العمال الكردستاني، وكانت الظهارة في نفس الوقت محاولة لترميم التوازن الداخلي. لكن سرعان ما تحولت الشراكة إلى صراع، إذ اتهم كل طرف الآخر بالاستئثار بالقرار.

 

2- الإقصاء والتأسيس الجديد

في صيف 2021، نفّذ جناح بافل عملية إزاحة ممنهجة ضد لاهور، أُبعد على إثرها من جميع المناصب الحزبية والأمنية. إلا أنّ الأخير لم يختفِ عن الساحة، بل عاد عبر تأسيس حزب جديد باسم "جبهة الشعب"، وتمكن من حجز موطئ قدم له في برلمان إقليم كردستان بانتخابات 2024. وهنا بدأ الخطر الحقيقي بالنسبة لبافل: منافس قوي في السليمانية نفسها، مع قاعدة جماهيرية متجذرة.

 

ثانياً: عملية فندق لالازار:

1- ساعة الصفر

فجر يوم 22 أغسطس 2025، حاصرت قوات خاصة تابعة للاتحاد الوطني فندق لالازار وسط السليمانية. استخدمت أسلحة ثقيلة لإجبار المطلوبين على الاستسلام، ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى، قبل أن يُعتقل لاهور وشقيقه بولات وعدد من المقرّبين.

 

2- شرعنة العملية

أعلنت السلطات أنّ المداهمة جاءت بناءً على مذكرة قبض صادرة عن محكمة تحقيق السليمانية، بتهم تتعلق بمحاولة اغتيال بافل طالباني والتخطيط لانقلاب داخلي. خلال أيام، نُشرت اعترافات مصورة لستة عناصر قالوا إنهم تلقوا أوامر من لاهور لاستهداف بافل. لكن سرعان ما طُعن في مصداقية هذه التسجيلات، وسط اتهامات بأنها انتُزعت تحت الإكراه.

 

3- بين السردية الرسمية والتشكيك الشعبي

بينما اعتبرت أجهزة بافل العملية "حماية للديمقراطية"، رآها أنصار لاهور "تصفية حسابات" تُخفي صراعًا على النفوذ والثروة في السليمانية. المفارقة أنّ العملية التي صُوّرت كضربة وقائية قد تفتح الباب أمام دورة جديدة من الاحتقان الشعبي والسياسي.

 

 

ثالثاً: البُعد الإقليمي والدولي:

1- إيران: الحاضر الغائب

تاريخيًا، كانت السليمانية أقرب إلى النفوذ الإيراني من أربيل. طهران تمتلك قنصلية قوية وشبكات تجارية وأمنية، وتعتبر استقرار جناح بافل ضمانة لمصالحها. ورغم عدم وجود دليل علني على دور إيراني مباشر في المداهمة، إلا أنّ النتيجة تصبّ في صالح طهران التي تُفضّل شريكًا متماهيًا معها على منافس غير مضمون الولاء.

 

2- بغداد: الحياد المعلن والاستفادة الصامتة

أعلن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أنّ بغداد تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف، داعيًا إلى الاحتكام للقانون. لكن عمليًا، فإنّ انقسام البيت الكردي يمنح بغداد ورقة ضغط إضافية، سواء في ملف الرواتب أو النفط أو المفاوضات حول الصادرات عبر خط جيهان.

 

3- الولايات المتحدة: قلق بلا تدخل

اكتفت واشنطن بالدعوة إلى التهدئة، وأبدت قلقها من الاستخدام المفرط للقوة داخل مدينة السليمانية. غير أنّ هذا الموقف يعكس تراجع النفوذ الأميركي في السليمانية مقابل تمدد شبكات طهران، وهو ما يقلق دوائر صنع القرار الأميركي، خاصة في ظل الصراع المفتوح مع إيران إقليميًا.

 

4- تركيا: المراقب الحذر

تتابع أنقرة التطورات من زاوية واحدة: علاقتها بملف حزب العمال الكردستاني في السليمانية. أي اضطراب أمني قد يُستخدم لتبرير استمرار حظر الرحلات الجوية إلى مطار السليمانية، ما يُبقي المدينة تحت ضغط اقتصادي خانق.

 

رابعاً: انعكاسات داخلية

1- الاتحاد الوطني: نحو احتكار القيادة

إذا تمكن بافل من تثبيت قبضته، فإنّ الحزب سيتحوّل إلى جناح واحد بلا معارضة داخلية ذات وزن. لكن الشرعية الشعبية ستبقى موضع شك، خاصة إذا لم تُقنع رواية "الانقلاب" الشارع الكردي.

2- العلاقة مع أربيل

الخلاف مع الحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل سيزداد تعقيدًا. فإذا كانت الانقسامات السابقة عائقًا أمام وحدة الموقف الكردي في بغداد، فإنّ أحداث السليمانية الأخيرة ستُعمّق الشرخ وتُضعف الموقف التفاوضي الكردي ككل.

3- الاقتصاد والاستثمار

صور الاشتباكات بالأسلحة الثقيلة وسط السليمانية أثارت قلق المستثمرين المحليين والأجانب. ففي بيئة تعاني أصلًا من تعطّل صادرات النفط وركود اقتصادي، تُشكّل هذه الأحداث ضربة لسمعة الإقليم كمنطقة مستقرة.

 

خامساً: البعد الإقليمي الأوسع

يأتي الصراع الداخلي في السليمانية بعد أسابيع قليلة من الحرب الإيرانية-الإسرائيلية في يونيو 2025، والتي هزّت المنطقة وأعادت ترتيب أولويات القوى الإقليمية. في هذا السياق، تسعى إيران إلى تحصين خاصرتها الشرقية في العراق ومنع أي فراغ أو تمرد في مناطق نفوذها. من هنا، يُمكن النظر إلى سيطرة بافل على الحزب كجزء من استراتيجية أوسع لإيران لضمان شركاء محليين موثوقين في زمن المواجهات الكبرى.

 

سادساً: السيناريوهات المحتملة

1.    التثبيت والاحتكار: ينجح بافل في تثبيت سلطته عبر القضاء والأمن، مع بقاء لاهور وحزبه خارج اللعبة. هذا السيناريو يضمن الاستقرار المؤقت لكنه يُكرّس انعدام التعددية داخل السليمانية.

2.    الارتداد الشعبي: تؤدي الاعتقالات والعنف المفرط إلى تصاعد احتجاجات أو تمرّد سياسي محلي، ما قد يُحرج جناح بافل ويُضعف شرعيته داخليًا وخارجيًا.

3.    الوساطة الإقليمية: تدخّل بغداد أو طهران أو حتى واشنطن لرعاية تسوية تُبقي لاهور في المشهد السياسي بوزن أقل، مقابل ضمان استقرار السليمانية.

 

في النهاية، ما وقع في السليمانية لم يكن مجرد عملية أمنية ضد فصيل متمرّد، بل هو رسالة سياسية عميقة: أن الصراع على النفوذ داخل كردستان العراق بات متداخلًا مع خرائط القوى الإقليمية. وإذا كان بافل طالباني قد خرج منتصرًا عسكريًا، فإنّ المعركة الحقيقية لا تزال في ميدان الشرعية والقبول الشعبي.

يبقى السؤال: هل سيؤدي هذا المسار إلى استقرار نسبي يعزز موقع الاتحاد الوطني في مواجهة خصومه؟ أم أنّه سيُدخل كردستان في دوامة جديدة من الانقسام تُضعفها أمام بغداد وطهران وأنقرة؟

الأكيد أنّ ما جرى في السليمانية هو جولة من معركة أطول، لن تُحسم بالرصاص وحده، بل بقدرة القيادة الكردية على استعادة الثقة، وبناء مشروع سياسي يتجاوز الانقسامات العائلية إلى أفق وطني جامع.

 

توصيات واستنتاجات مستقبلية

1. على قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني (PUK):

o إذا أراد جناح بافل ترسيخ شرعيته، فعليه الانتقال من منطق القوة إلى منطق القانون، عبر محاكمات علنية شفافة تتيح الرقابة المستقلة، بدلًا من الاكتفاء باعترافات مصوّرة تُضعف مصداقية السردية الرسمية.

o الانفتاح على المصالحة الداخلية وتخفيف الطابع العائلي في إدارة الحزب، بما يفتح الباب أمام تجديد دمائه سياسيًا وتنظيميًا.

 

2. على لاهور شيخ جنكي وأنصاره:

o إن أرادوا البقاء في المشهد السياسي، ينبغي لهم التحول إلى معارضة سلمية مؤسسية، بعيدًا عن لغة المواجهة العسكرية. التمسك بالشارع والبرلمان كمنابر مشروعة هو السبيل الوحيد لحماية قاعدتهم من الإقصاء الكامل.

 

3. على بغداد:

o استثمار اللحظة ليس في إضعاف الكُرد، بل في دفعهم إلى إعادة بناء وحدة الصف، لأنّ عراقًا هشًا في شماله سيُضعف قدرة الدولة على مواجهة تحديات أكبر، من الاقتصاد إلى الأمن.

o دعم أي مسار قضائي محايد يمنع تحويل الخلافات الداخلية إلى صراع مسلح طويل الأمد.

 

4. على القوى الدولية (الولايات المتحدة والأمم المتحدة):

o الانتقال من بيانات التهدئة إلى ضغط عملي لضمان احترام حقوق الإنسان في السليمانية.

o السعي إلى إبقاء توازن النفوذ داخل الإقليم بعيدًا عن هيمنة طرف إقليمي واحد، بما يحفظ التنوع السياسي ويعزز الاستقرار.

 

5. على الإقليم ككل (PUK وKDP):

o إعادة فتح قنوات الحوار بين السليمانية وأربيل، لأنّ استمرار الشرخ بين الحزبين الرئيسيين سيُضعف الموقف الكردي جماعيًا أمام بغداد وطهران وأنقرة.

o التفكير بمشروع إصلاحي اقتصادي وأمني يُعطي الأولوية للمواطن، بدلًا من حصر المشهد في صراعات عائلية أو حزبية ضيقة.

 

إنّ أحداث السليمانية لم تكن مجرّد مواجهة بين أبناء العم من عائلة طالباني، بل كانت بروفة لميزان القوى في الإقليم بأسره.

فإما أن تُستثمر هذه اللحظة لبناء مشروع كردي أكثر تماسكًا يواجه التحديات الإقليمية والدولية، أو تتحول إلى بداية مرحلة جديدة من الانقسام والارتهان، سيدفع ثمنها المواطن الكردي قبل غيره.