
د. ابراهيم احمد سمو
كاتب كوردي
بارزاني في فرنسا.. تكريم البيشمركة الخالد

حين نتحدث عن الرئيس مسعود بارزاني، فإننا لا نتحدث عن زعيم سياسي عابر أو رئيس حزب تقليدي، بل عن شخصية تَشَكَّلَت في مدرسة لها جذورها العميقة في الأرض والروح معاً. مدرسة بارزانية جمعت بين القيم الصوفية التي تحرر النفس من الأنا، وبين الإرث الثوري الذي جسّد تضحيات لا تُحصى من دماء الشهداء والجرحى عبر أجيال متلاحقة. مدرسة جعلت من خدمة الشعب غايتها الأولى، واعتبرت الحرية ليست شعاراً، بل قدراً يجب انتزاعه مهما كان الثمن.
لقد نشأ مسعود بارزاني في أحضان تلك المدرسة، حيث كان صوت الرصاص موسيقى الطفولة، وحيث اعتاد أن يرى البندقية رفيقة الدرب لا أداة غريبة. ومع ذلك، لم يكن الانتماء إلى السلاح نهاية المطاف، بل كان مدخلاً إلى فهم أعمق: أن السلاح وسيلة لحماية الإنسان، وليس غاية لإراقة الدماء. فالبارزانية في جوهرها دعوة إلى السلام، لكنها سلام يستند إلى قوة الإرادة لا إلى الاستسلام.
بين المحن وصمام الأمان
مرت كوردستان في القرن العشرين بمحطات قاسية. من ثورات الثلاثينات والأربعينات، إلى ثورة أيلول التي وحدت الكورد تحت راية الحرية، ومن حملات الأنفال الإجرامية التي التهمت أرواح أكثر من 182 ألف إنسان بريء، إلى القصف الكيمياوي وعمليات التهجير والتجويع. وسط هذه المآسي، كان بارزاني الابن امتداداً لنهج بارزاني الأب، حاملاً رسالة مفادها أن الشعب الكوردي باقٍ مهما تعاظمت المحن.
حين انتهت الحرب العراقية الإيرانية، وجاء الاحتلال العراقي للكويت وما تبعه من اضطراب في المنطقة، كان الشعب الكوردي على شفا حفرة من النار . غير أن بارزاني، بحكمته وهدوئه، تحوّل إلى صمام أمان حقيقي، حافظ على تماسك المجتمع، وأعاد الأمل إلى النفوس. ثم جاءت الانتفاضة الشعبية عام 1991، فكانت لحظة انعطاف كبرى، إذ دعا بارزاني إلى انتخابات حرة ونزيهة عام 1992، وهي خطوة تاريخية أسست لبرلمان كوردستان وحكومة إقليمية تمثل إرادة الشعب.
من البناء الداخلي إلى الانفتاح الدولي
تلك المرحلة لم تقتصر على حماية الشعب فقط، بل فتحت الباب أمام حملة إعمار واسعة. أُعيد بناء القرى المدمرة، وبدأت كوردستان تنهض من رمادها. ومع سقوط النظام عام 2003، كان للكورد دور مركزي في صياغة عراق جديد، عبر دستور اعترف بالفيدرالية وضَمِنَ حقوق الشعب الكوردي. لكن هذا الانفتاح السياسي لم يكن نهاية التحديات، إذ سرعان ما ظهرت التدخلات الإقليمية ومحاولات زرع الفتن الداخلية.
أخطر تلك التحديات كان ظهور تنظيم داعش الإرهابي، الذي لم يكن يستهدف فقط السيطرة على الأرض، بل أراد محو التجربة الكوردية من جذورها. عندها وقف الپێشمەرگة، أبناء الأرض، بصدورهم العارية وإيمانهم العميق، ليتحولوا إلى سدّ منيع أمام زحف الظلام. وفي الخطوط الأمامية، لم يكن بارزاني بعيداً، بل كان مشاركاً فاعلاً مع المقاتلين، يتقاسم معهم الخطر والعرق، ويمنحهم الثقة بأنهم ليسوا وحدهم.
البيشمركة والشرعية الدولية
من خلال تلك المواجهة، اكتسب الپێشمەرگة سمعة عالمية بوصفهم قوة تقاتل دفاعاً عن الحرية، لا بحثاً عن نفوذ. وهذه السمعة لم تأتِ من فراغ، بل من تضحيات جسام ومعارك لا تُنسى. وفي هذا السياق، جاءت زيارة الرئيس مسعود بارزاني إلى فرنسا، ليس بوصفها رحلة بروتوكولية عادية، بل كحدث رمزي عميق المعنى، يحمل في طياته تكريماً لتلك التضحيات، وتقديراً لدور الكورد في حماية القيم الإنسانية المشتركة.
فرنسا، بتاريخها الثوري وقيمها الإنسانية، كانت الساحة التي احتضنت هذه اللحظة الاستثنائية. هناك، حيث تُرفع رايات الحرية والمساواة والإخاء، وقف الرئيس الثمانيني شامخاً، يشارك في افتتاح پارک يحمل اسم الپێشمەرگة ؛ ليكون شاهداً على أن دماء الشهداء لم تذهب سدى، وأن العالم بات يعترف ببطولات هذه القوة الفريدة.
بارزاني في باريس: دلالات ورموز
أن يُكرَّم الكورد في باريس، يعني أن القضية الكوردية لم تعد محصورة في الجغرافيا الضيقة للجبال والوديان، بل أصبحت جزءاً من الضمير العالمي. لقد تحوّل صوت البندقية الكوردية إلى رسالة سلام، ورسالة مقاومة في آن معاً. فالتكريم لم يكن لشخص بارزاني الپێشمەرگة فقط، بل كان للمدرسة البارزانية التي ربّت أجيالاً على التضحية من أجل الحق.
لقد ظهر بارزاني في تلك المناسبة مُكرَّماً بين قادة فرنسا ، محاطاً بالاحترام والتقدير، وهو في عقده الثامن من العمر. لم يكن تكريمه وتكريم الپێشمەرگە مجرد حدث رسمي، بل كان شهادة حياة لرجل لم يعرف الراحة، عاش بين الجبال، وقاد الثورات، و قاد اقليم كوردستان وحافظ على وحدة الصف، ثم جاء اليوم ليُحتفى به في قلب أوروبا بوصفه رمزاً للثبات والإصرار.
ما بعد التكريم
زيارة بارزاني إلى فرنسا ليست نهاية المطاف، بل بداية مرحلة جديدة من العلاقات الدولية للكورد. إنها تعبير عن انتقال التجربة الكوردية من خانة الدفاع عن الوجود إلى خانة المساهمة في صياغة مستقبل المنطقة والعالم. فالپێشمەرگة الذين دافعوا عن كوردستان، باتوا اليوم رمزاً عالمياً لمكافحة الإرهاب وحماية القيم الإنسانية، وفرنسا باحتضانها لهذا التكريم، أكدت أن العالم يعترف بالدور الكوردي ولا يمكن تجاوزه.
خاتمة
إن ما تحقق في باريس ليس مجرد احتفال، بل هو رسالة إلى كل من أراد طمس هوية الكورد، مفادها أن الدماء الطاهرة التي سالت في أيلول وفي الجبال و حرب داعش بالذات لن تذهب هدراً. إنها لحظة التقاء بين الماضي والحاضر: بين مدرسة بارزاني التي علّمت التضحية، وبين فرنسا التي تُجسّد قيم الحرية. وفي وسط هذا اللقاء، يقف مسعود بارزاني، رجل الدولة الذي عاش الحرب والسلام، ليقول من جديد: أنا في خدمة الشعب.
لقد أثبتت زيارة بارزاني إلى فرنسا أن القادة الحقيقيين لا تُقاس مكانتهم بالسنوات أو بالمناصب، بل بما يتركونه من أثر في نفوس شعوبهم وفي ذاكرة العالم. وها هو بارزاني، الثمانيني، يقف اليوم كرمز خالد، يحمل على كتفيه تاريخ الپێشمەرگة، ويمنح للأجيال المقبلة يقيناً بأن مدرسة التضحية ستبقى حيّة ما دام هناك من يهتف باسم الحرية.