المنطقة على فوهة بركان.. بين الحسابات الإسرائيلية والرهانات الأمريكية وانهيار الداخل الإقليمي

المنطقة على فوهة بركان.. بين الحسابات الإسرائيلية والرهانات الأمريكية وانهيار الداخل الإقليمي
المنطقة على فوهة بركان.. بين الحسابات الإسرائيلية والرهانات الأمريكية وانهيار الداخل الإقليمي

منذ أعوام والمنطقة تسير بخطى متسارعة نحو هاوية مفتوحة على احتمالات لا يمكن التنبؤ بها. وما كنا نتابعه كمراقبين للأحداث أصبح اليوم حقيقة ماثلة أمام الجميع: الفأس وقع في الرأس، والحبل على الجرار، والقادم لا يبشر بخير. فالحرب لم تبدأ بالأمس، بل ملامحها الأولى تشكّلت قبل عام ونصف على الأقل، حين بدأت التوترات تتخذ مسارات أكثر خطورة. ومع ذلك، ما زالت الضربة الكبرى التي يتوقعها الكثيرون لم تحدث بعد، وكأنها تُدار بتوقيت دولي محسوب بدقة.

إسرائيل و”الضربة النوعية”

الضربة الأخيرة التي وُجّهت نحو قطر من قبل إسرائيل ليست تفصيلًا صغيرًا في لوحة الصراع؛ فهي تحمل رسائل أبعد مما يظهر على السطح. إسرائيل أرادت أن تؤكد أن يدها مفتوحة وأنها قادرة على ضرب أي هدف في المنطقة، ليس فقط في محيطها القريب، بل في عمق كل دولة قد ترى نفسها قادرة على الوقوف بوجه مصالحها. إنها رسالة بأن لا خطوط حمراء في هذه المرحلة، وأن الحرب غير التقليدية باتت مفتوحة على كل الخيارات.

هذه التطورات تزامنت مع خطابات متناقضة في الداخل الإيراني. فبينما دعا رأس هرم النظام الإيراني قبل أيام شعبه إلى تخزين المواد الغذائية تحسبًا لأزمة طويلة الأمد، خرج رئيس إيران نفسه ليعلن أن مشكلة بلاده ليست في أمريكا ولا في إسرائيل، بل في الداخل الإيراني المتأزم. هذا التصريح بحد ذاته إشارة خطيرة، إذ يكشف أن النظام يدرك حجم الأزمة العميقة التي تضرب الداخل، وأن الخطر الحقيقي قد يأتي من الداخل قبل الخارج.

اللعبة المستمرة منذ 1979

منذ ثورة 1979 وما تبعها من تحولات إقليمية، والمنطقة تعيش لعبة معقدة من شد وجذب، تتداخل فيها المصالح الأمريكية والإسرائيلية مع الطموحات الإيرانية  والعربية. لكن جذور اللعبة أقدم من ذلك؛ فهي تعود إلى بدايات القرن العشرين وإلى خرائط التقسيم الأولى التي فرضتها القوى الكبرى على الشرق الأوسط. ما نشهده اليوم ليس إلا فصلًا جديدًا من تلك اللعبة، فصلًا قد يعيد تشكيل الجغرافيا السياسية برمتها.

وربما يكون الحاصل في نهاية المطاف هو اختلاط الأوراق بطريقة تطيح ببعض القوى الإقليمية التي بنت نفوذها على حساب الآخرين، فيما قد تنشأ فرص جديدة لشعوب طالما عانت من التهميش، فتنهض نحو إدارة ذاتية أو استقلال سياسي جزئي أو كامل.

قطر والخليج في دائرة النار

الضربة التي تلقّتها قطر تكشف هشاشة الموقف الخليجي. فمهما امتلكت هذه الدول من أسلحة متطورة ومنظومات دفاع جوي، فإنها تبقى معتمدة اعتمادًا شبه كامل على الدعم الأمريكي. وإذا قررت واشنطن في لحظة معينة سحب مظلتها الأمنية أو خفض ثقتها بحلفائها الخليجيين، فإن تلك الدول ستجد نفسها عاجزة عن الصمود أيامًا معدودة أمام الهجمات المكثفة.

اليوم المنطقة تغلي، والخليج ليس بمنأى عن هذا الغليان. فكل ضربة، سواء على قطر أو غيرها، ليست إلا جزءًا من سلسلة تهدف إلى إعادة رسم توازنات النفوذ في المنطقة.

العراق… ساحة الصراع المقبلة؟

العراق مثال آخر على هشاشة الوضع الإقليمي. فالدولة العراقية، إذا لم تعد إلى تمثيل جميع المتطلبات الأمريكية ولم تنسجم مع الرؤية الغربية، قد تتحول هي الأخرى إلى ساحة مفتوحة للقتال. ومشهد بغداد ليس بعيدًا عن مشاهد غزة أو بيروت أو دمشق. فالمد الكبير في المنطقة لا يتوقف عند حدود “حماس” أو “حزب الله”، بل يمتد إلى عمق الجغرافيا حيث تُستخدم الدول كساحات بديلة لتصفية الحسابات الكبرى.

حلم إسرائيل واندفاع القوة                     

بحسب المؤشرات والمستجدات الأخيرة، بدا حلم إسرائيل القديم وكأنه يستيقظ من سباته. الخطة التي كانت نائمة لبعض الوقت – ربما انتظارًا لظروف أنسب – جاءت “حماس” لتوقظها فجأة. فالأحداث التي بدأت في غزة أعادت إشعال النار في كل الجبهات، ودفعت إسرائيل إلى استثمار اللحظة للتقدم بخطى مدروسة نحو أهدافها الكبرى.

لم تعد المعركة مقتصرة على “حماس” أو “حزب الله”، بل صارت متعددة الجبهات: جيوب مسلحة في سوريا، أهداف نوعية في قلب طهران، ضربات متفرقة في أماكن مختلفة. كل ذلك جزء من استراتيجية إسرائيلية تهدف إلى إنهاك الخصوم تدريجيًا، وإبقاء المنطقة في حالة استنزاف دائم.

الإعلام في مرمى النار      

أحد أخطر الاحتمالات المقبلة أن تتحرك إسرائيل نحو استهداف القنوات الفضائية التي ترى أنها تؤدي دورًا تحريضيًا ضدها. قد تبدأ هذه الخطوة باستهداف قنوات عربية تموّلها قطر أو دول أخرى، خصوصًا تلك التي تتمتع بجماهيرية تطرفية نوعا ما و واسعة وتؤثر في الرأي العام العربي والدولي. وإن حصل ذلك، فلن يكون مجرد ضربة للإعلام، بل رسالة سياسية قوية بأن الحرب تشمل المعلومة والصورة والكلمة، لا الصواريخ فقط.

بين واشنطن وطهران… عقدة مستمرة   

منذ عقود، والعلاقة بين واشنطن وطهران تتأرجح بين التصعيد والتهدئة. لكن الجديد اليوم أن إيران نفسها بدأت تعترف بأن أزمتها داخلية أكثر مما هي خارجية. هذه لحظة فارقة، لأنها تكشف أن العقوبات الخارجية والضغوط الأمريكية لم تكن وحدها السبب في الانهيار الاقتصادي والسياسي، بل أن الفساد، والانقسام الداخلي، وسوء الإدارة، كانت وما زالت عوامل أساسية.

إذا استمرت هذه الأوضاع، فقد تجد إيران نفسها أمام ثورة داخلية صامتة أو انفجارات اجتماعية متتالية، وهو ما قد يكون الهدف غير المعلن لبعض القوى الدولية التي تراهن على سقوط النظام من الداخل بدلًا من خوض حرب مباشرة معه.

خلط الأوراق وتغيير المعادلات

من الواضح أن الأوضاع تتجه إلى مرحلة خلط أوراق شامل. بعض الدول ستخسر نفوذها بلا رجعة، فيما قد تظهر كيانات أو إدارات جديدة أكثر استقلالية. وربما يكون الكورد، أو غيرهم من الشعوب التي عانت طويلًا من التبعية، من بين المستفيدين من هذا التغيير إذا استطاعوا استثمار اللحظة التاريخية.الوقوف في الحياد و المتفرج على الاحداث بحذر تام 

لكن في المقابل، هناك من سيدفع الثمن غاليًا. فالدول الصغيرة المعتمدة على حماية خارجية قد تنهار بسرعة، والشعوب التي تفتقر إلى قيادة موحدة ستجد نفسها عرضة لمزيد من الفوضى والاقتتال.

الحرب اليومية وصوت الأخبار

اليوم، لم يعد أحد في المنطقة ينام دون أن يسمع آخر نشرات الأخبار. فالأحداث تتسارع على نحو غير مسبوق: ضربات هنا، تفجيرات هناك، تهديدات متبادلة، تصريحات متناقضة. وكأننا نعيش داخل نشرة أخبار دائمة، حيث لا يفصل بين حدث وآخر سوى ساعات قليلة.

في هذا السياق، تبدو إسرائيل مصممة على المضي في مشروعها، بدعم أمريكي مباشر أو غير مباشر. أما القوى الأخرى، فتبدو إما في موقع رد الفعل، أو غارقة في صراعاتها الداخلية، أو عاجزة عن رسم استراتيجية طويلة الأمد.

الخلاصة

المنطقة اليوم تقف على فوهة بركان. لا أحد يمكنه أن يتنبأ بالانفجار الكبير متى وكيف سيكون، لكن كل المؤشرات تقول إننا نقترب منه. إسرائيل تمضي إلى الأمام بخطة مدروسة، وأمريكا تواصل إدارة اللعبة من الخلف، وإيران تتآكل من الداخل، والدول الخليجية تحت رحمة المظلة الأمريكية. أما العراق وسوريا ولبنان واليمن، فهي ساحات مفتوحة لصراعات الآخرين.

ما يجري ليس حربًا تقليدية بين جيوش، بل شبكة معقدة من الحروب الصغيرة المتنقلة، التي قد تنفجر في لحظة إلى حرب إقليمية شاملة. وعندها، لن يكون هناك رابح حقيقي، بل خاسرون كُثُر، وشعوب تدفع الثمن الأكبر وشعوب يقبضون الحلم