
د. سامان سوراني
أكاديمي كوردي
القرار الأمريكي وتداعياته: هل يُعاد رسم النظام السياسي العراقي؟

في خطوة تحمل أبعاد سياسية وأمنية معقدة، أدرجت الولايات المتحدة أربع جماعات عراقية (حركة النجباء، وكتائب سيد الشهداء، وحركة أنصار الله الأوفياء، وكتائب الإمام علي) ضمن قائمة «المنظمات الإرهابية الأجنبية»، المعروفة اختصاراً بـ«FTO»، والتي ضمت في السابق فصيلَين عراقيَين؛ «عصائب أهل الحق»، و«كتائب حزب الله»، ليصبح العدد اليوم 6 فصائل عراقية، في لائحة تضم 60 منظمة إرهابية، من بينها «القاعدة» و«داعش»، أيضاً.
ورغم أن القرار يبدو في ظاهره إجراءاﱠ عقابياﱠ يستهدف فصائل متهمة بتهديد المصالح الأمريكية، إلا أنه يحمل بين طياته رسائل استراتيجية تتجاوز الجغرافيا العراقية إلى المنطقة برمّتها.
الجماعات المعنية، والتي تمثل أجنحة مسلحة لفصائل سياسية شيعية نافذة، تجد نفسها الآن أمام اختبار وجودي. فعلى الصعيد الدولي، يعني هذا التصنيف تجميداﱠ للأصول، وملاحقة لأي دعم خارجي، وربما فرض عقوبات على كيانات أو أفراد يتعاملون معها.
أما محلياﱠ، فإن هذه الجماعات قد تلجأ إلى أحد خيارين: إما التكيف مع المتغير الدولي من خلال إعادة تموضع سياسي وإعلامي، أو الذهاب نحو مزيد من التشدد والمجابهة، ما قد يعيد إنتاج سيناريوهات العنف.
لكن الأهم هو أن هذه الفصائل ليست كيانات منفصلة عن بنية الدولة، بل هي منخرطة بدرجات متفاوتة في مؤسسات أمنية وسياسية، وبعضها يمتلك أجنحة برلمانية. وبالتالي، فإن تداعيات القرار الأمريكي ستتجاوز المسار الأمني لتطال النسيج السياسي نفسه.
أما فیما یخص السلطة في بغداد، فأن القرار الأمريكي يضع الحكومة العراقية بين فكي كماشة: من جهة، هي مطالبة بالتماهي مع الضغوط الأمريكية لتجنب مزيد من التوتر في العلاقات مع واشنطن، لا سيما في ظل الحاجة إلى الدعم المالي والتقني الغربي. ومن جهة أخرى، فإن أي إجراء ضد هذه الجماعات قد يفتح أبواب التصعيد الداخلي، خصوصاﱠ وأن لبعضها قاعدة جماهيرية وامتداداﱠ شعبياﱠ في الجنوب والوسط.
من المتوقع أن تدفع هذه التطورات نحو تعزيز موقع القوى المعتدلة، أو تلك التي تحاول الظهور بمظهر "الدولة"، کبعض الجهات السياسية الشیعیة المدنیة و القوى السنية والكوردستانية التي تنظر بقلق إلى أي انفجار داخل العراق قد يهدد التوازن الهش.
السؤال هو، هل تنفذ واشنطن ضربات ضد الفصائل؟
في ضوء التصعيد المستمر الذي شهدته الساحة العراقية – من استهداف القواعد الأمريكية إلى تهديد المصالح الغربية – فإن خيار الضربات الجوية أو عمليات "جراحية" محدودة بات مطروحاﱠ، لا سيما إذا استُهدفت المصالح الأمريكية مجدداﱠ. غير أن تنفيذ ضربات واسعة النطاق يبقى مستبعداﱠ في الوقت الحالي، لأن واشنطن لا تريد أن تتحول العراق إلى ساحة اشتباك مباشر مع إيران، خاصة بعد تراجع التوتر مؤخراﱠ في ملفات أخرى مثل النووي.
لكن الرسالة الأمريكية واضحة: الصبر الاستراتيجي قد بلغ منتهاه، وأي تصعيد جديد سيقابل برد فعل حاسم، ولو كان محدوداﱠ.
هذا القرار يأتي في وقت حرج، إذ يستعد العراق لدخول مرحلة انتخابية مفصلية، سواء كانت انتخابات مبكرة أو في موعدها الدستوري.
وهنا، قد يؤثر التصنيف على قدرة الفصائل المعنية على خوض الانتخابات أو تمويل حملاتها، كما سيشكل ضغطاﱠ على المفوضية العليا، التي ستكون أمام اختبار النزاهة والاستقلالية.
في المقابل، قد تستثمر بعض القوى "غير المصنفة" هذه الفرصة لتعزيز خطابها الداعي إلى دولة خالية من السلاح غير الشرعي، وهو ما قد يعيد تشكيل الخريطة السياسية لصالح تيارات مدنية أو وسطية.
لكن الأهم من کل هذا هو أن هذا القرار يفتح الباب أمام نقاش داخلي حول ماهية "السيادة"، وعلاقة الدولة بالفصائل، وجدوى استمرار ازدواجية السلاح والقرار، وهو ما قد يؤدي، على المدى المتوسط، إلى إعادة صياغة المعادلة الأمنية والسياسية برمتها.
وختاماﱠ: ما يجري ليس مجرد تصنيف أمريكي، بل هو مؤشر على مرحلة جديدة في العلاقة بين واشنطن وبغداد، عنوانها: "الوضوح الاستراتيجي بدل الغموض البنّاء". وسيكون على العراق أن يختار بين البقاء رهينة لمعادلات ما بعد داعش، أو الانتقال إلى دولة تستكمل مؤسساتها و تطبق الدستور بحذافیرها و تؤمن التعددية و بالفدرالیة کأداة لبناء الشراكة الحقيقية، وتعيد تعريف دورها الإقليمي من موقع الفاعل، لا المفعول به.