قانون الحشد وقانون الجعفرية: وجهان لعملة تفتيت العراق

قانون الحشد وقانون الجعفرية: وجهان لعملة تفتيت العراق
قانون الحشد وقانون الجعفرية: وجهان لعملة تفتيت العراق

تُعدّ المرحلة الراهنة من أكثر الفترات حساسة في تاريخ العراق المعاصر، إذ يواجه البرلمان تناقضًا واضحًا بين مسارين تشريعيين متوازيين: مشروع قانون الحشد الشعبي الذي تعثر وتراجع رغم الدعم الذي حظي به من قوى سياسية نافذة، وتعديلات قانون الأحوال الشخصية التي أُقرت بأغلبية رغم ما يثيره من مخاطر اجتماعية وحقوقية. هذه المفارقة تكشف أزمة عميقة في أولويات التشريع؛ فالقوانين التي تُضعف المجتمع وتفكك نسيجه تُفتح لها الأبواب بسهولة، بينما القوانين المتعلقة بالسلاح والأمن لا تُعطل إلا إذا اصطدمت بضغوط دولية مباشرة.

منذ إقراره الأول عام 2016 شكّل قانون الحشد الشعبي محاولة لإضفاء شرعية على مؤسسة عسكرية–سياسية نشأت في ظروف استثنائية. أما المحاولة الجديدة عام 2025 لإعادة صياغة القانون بشكل أكثر تفصيلًا للهيكلية والرتب والتمويل، فلم تكن لتعزز وحدة الدولة، بل عكست توجهات قوى سياسية موالية لأجندات خارجية سعت إلى ترسيخ نفوذها المسلح وإضفاء طابع مؤسسي عليه. القوى الرافضة للمشروع، ورغم إدراكها لخطورة القانون، لم تتمكن من مواجهته بفاعلية بسبب ضعف وزنها في المشهد السياسي. لكن العامل الحاسم جاء من التدخل الدولي المباشر؛ إذ مورست ضغوط قوية على البرلمان وعلى الكتل المؤيدة للمشروع، مرفقة بتهديدات سياسية وأمنية، وهو ما أجبرها على التراجع وسحب المشروع. وهكذا لم يسقط القانون نتيجة توازن داخلي، بل بفعل تدخل خارجي أوقف مساره.

وفي محاولة لامتصاص آثار هذا التراجع وتهدئة الشارع العراقي، لجأت القوى السياسية إلى تمرير سلّة من القوانين بسرعة، كان أبرزها تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 وفق الرؤية الجعفرية. وبحسب تقرير مكتبة الكونغرس الأميركية (14 شباط/فبراير 2025)، فقد ألغت التعديلات اختصاص المحاكم الاتحادية في مسائل الزواج والطلاق، ومنحت صلاحيات أوسع للمرجعيات المذهبية. كما أشار معهد بروكينغز (20 شباط/فبراير 2025) إلى أن هذه التعديلات "تقوّض وحدة القانون وتفتح الباب أمام تشريعات متناقضة تمس كيان الأسرة العراقية". أما منظمة هيومن رايتس ووتش (10 آذار/مارس 2025) فقد رأت فيها "انتكاسة خطيرة لحقوق النساء والفتيات، لأنها تشرعن زواج القاصرات وتضعف قدرة المرأة على اللجوء إلى القضاء."

خطورة هذه التعديلات لا تقتصر على الوسط العربي–الشيعي فحسب، بل تمتد آثارها إلى جميع المكونات العراقية، بما فيها المجتمع الكوردي في إقليم كردستان. فهذا المجتمع الذي سعى إلى تكريس مدنية القانون يجد نفسه اليوم مهددًا بعودة المرجعيات المذهبية إلى موقع التحكم في قضايا الأسرة، وهو ما يضرب وحدة العراق القانونية ويعيد إنتاج الانقسام الاجتماعي والطائفي.

من هنا يتضح أن ازدواجية التشريع في العراق تعكس في جوهرها صراع الأجندات الداخلية والخارجية معًا. فالقانون الذي يهدد وحدة الدولة ويكرّس ازدواجية السلاح لم يُمنع بقرار وطني جامع، بل بتدخل وضغط خارجي. أما القانون الذي يهدد وحدة المجتمع والأسرة فقد مُرّر بسرعة، كجزء من صفقة سياسية هدفت إلى تهدئة الداخل وإرضاء بعض المرجعيات الدينية والاجتماعية.

يقف العراق اليوم أمام مفترق تاريخي خطير: فإما خيانة الوطن عبر تشريع قوة مسلحة موازية تفتح الباب أمام تفتيت السيادة، أو تمزيق المجتمع من الداخل عبر قوانين مذهبية تُفكك الأسرة العراقية وتضرب وحدة القانون المدني. وكلاهما وجهان لعملة واحدة، إذ لا يقل عسكرة السياسة خطرًا عن انهيار البنية الاجتماعية. إن مستقبل العراق مرهون بالتمسك بسيادة القانون المدني الواحد، وبإعلاء الدستور على كل الأجندات الداخلية والخارجية. فإما أن ينتصر منطق الدولة والمواطنة، وإما أن يظل التشريع أداة لتفتيت العراق بين سلاح منفلت وأسرة مهددة.