هل تعرفون ما يُدار خلف الكواليس… أم أنكم منشغلون بمقاعد الانتخابات؟

إن ما يُدار خلف الكواليس اليوم أخطر بكثير من ضجيج الحملات الانتخابية. فالمسألة لم تعد مجرد مقاعد برلمانية، بل مستقبل كيان سياسي بُني بدماء وتضحيات لعقود. إنها معركة لا تُدار بالدبابات والجيوش، بل تُخاض بأدوات ناعمة وخفية: الرواتب المؤجلة، الكوتا المُستغلّة سياسيًا، والقوانين المفصّلة لإعادة رسم الخريطة على مقاس من يريد تقويض الكيان الكوردي. وإذا استمرت القوى الكوردية منشغلة بصراعاتها الداخلية ومعاركها الصغيرة، وتبادل الاتهامات لمجرد الفوز، فإنها قد تفقد المعركة الكبرى دون أن تشعر. الانتخابات المقبلة ليست فوزًا أو خسارة لحزب، بل اختبار بقاء لكوردستان كلها. واليوم، يجب أن يكون الهدف هو الاتحاد وتعزيز الحضور الكوردي في البرلمان العراقي، بدل التناحر الذي يضعف البيت الكوردي من الداخل.
وهنا يظهر أن المؤامرة ليست نظرية، بل عملية تُترجم على الأرض عبر أدوات واضحة، في مقدمتها الأزمة المالية. فبحسب صحيفة The Arab Weekly (2023)، فإن “أزمة الرواتب أعادت إحياء الخلافات بين أربيل وبغداد، واستُخدمت وسيلة للضغط على الإقليم في توقيت سياسي حسّاس”. هذه السياسة تذكّر بسياسات التسعينيات؛ إذ أوضحت Human Rights Watch في تقريرها Endless Torment (2007) أن صدام حسين انسحب إداريًا من مدن كوردستان بعد انتفاضة 1991، تاركًا السكان يواجهون فراغًا خدمياً واقتصاديًا، ليُظهِر للعالم أن الكوردي غير قادر على إدارة نفسه. وبالمثل، بيّن تحليل MERIP (1992) أن هذا الانسحاب لم يكن هزيمة تكتيكية فحسب، بل كان أداة لإضعاف شرعية الانتفاضة. واليوم، تبدو الرواتب تُستخدم بالمنطق ذاته: لإضعاف المؤسسات الكوردية من الداخل، وزرع الشك بين المواطن وحكومته.
ثم تأتي مسألة الكوتا والأقليات. فقد كشفت وكالة Associated Press (2023) في تقرير بعنوان “Iraq’s Christians accuse larger parties of manipulating quota seats” أن أصواتًا من خارج المكوّن المسيحي استُخدمت لتغيير نتائج الكوتا في نينوى وسهلها، بحيث تحوّلت هذه المقاعد إلى أداة سياسية بيد قوى مرتبطة بالحكومة الاتحادية في بغداد. هذا النمط من “الهندسة الانتخابية” يعكس رغبة منهجية في إضعاف الوزن الكوردي داخل المعادلة البرلمانية، وربط بعض الحركات المحلية كـ”ريان الكلداني” و”بابليون” بخط استراتيجي يخدم مصالح بغداد ويضغط على الإقليم. كما أن دعم بعض القوى للأحزاب الضعيفة يهدف إلى إبقائها تحت السيطرة، وفي المقابل محاولة كسر الحزب الأقوى" الحزب الديمقراطي الكردستاني" الذي لا يزال يقف بالمرصاد دفاعًا عن حقوق هذا الشعب.
أما على الصعيد القانوني، فقد جاء تدخل المحكمة الاتحادية ليزيد من تعقيد المشهد. أشار New Lines Institute (2025) في تقريره “Kurdistan Has Emerged from Its Latest Elections More Divided Than Ever” إلى أن تعديلات القوانين الانتخابية وقرارات المحكمة أسهمت في إعادة رسم الخريطة السياسية داخل الإقليم بطريقة أضعفت الموقف الموحد وزادت الانقسام الداخلي. وفي السياق ذاته، أكد Washington Institute (2024) في دراسته “Kurdistan’s Pivotal Elections: A Defining Moment for the Region’s Future” أن الانتخابات المقبلة ليست مجرد اختبار لحجم المقاعد، بل لحيوية المشروع الكوردي نفسه، وأن قدرة الإقليم على البقاء ككتلة سياسية موحدة باتت على المحك.
وفي ظل هذه الأزمات، تتحرك الأطراف الإقليمية والدولية وفق حساباتها الخاصة. فإيران ترى في الانقسام فرصة لإحياء قنوات نفوذها التقليدية، بينما تركيا توازن بين مصالحها الاقتصادية والأمنية ، لكنها لا تتردد في استغلال هشاشة البيت الكوردي. أما الغرب، ورغم أنه كان أحد أبرز الداعمين لتثبيت الكوردي على المحافل الدولية بعد 1991، فإنه اليوم يفضل – بحسب مواقفه الأخيرة – التعامل مع طرف واحد “أسهل” من التفاوض مع عدة قوى متنازعة. هذا ما يعكسه التوجه الغربي نحو الاستقرار الشكلي حتى لو جاء على حساب استقلالية القرار الكوردي.
إن هذه اللحظة السياسية ليست عادية، بل مفصلية في مسار العلاقة بين الإقليم والمركز. فبينما تُدار المؤامرات بهدوء في غرف القرار ببغداد، تُنشغل الساحة الكوردية بخلافات داخلية تُضعف موقفها وتُسهّل استهدافها. وإذا لم تدرك القوى الكوردية أن الانتخابات المقبلة ليست مجرد تنافس على المقاعد، بل معركة لإثبات الوجود والحقوق في وجه هندسة سياسية تتعمد تهميش الإقليم، فإنها ستسلّم أوراقها بيد خصومها من حيث لا تدري. فإما أن تتحول الانتخابات إلى مناسبة لتجديد الثقة والوحدة، أو أن تكون لحظة تفريط تاريخي تُحسب على من تهاون، لا على من تآمر.