الاستفتاء الكوردي 2017: رصيد مؤجَّل ووثيقة تنتظر لحظة التفعيل

الاستفتاء الكوردي 2017: رصيد مؤجَّل ووثيقة تنتظر لحظة التفعيل
الاستفتاء الكوردي 2017: رصيد مؤجَّل ووثيقة تنتظر لحظة التفعيل

في الخامس والعشرين من أيلول عام 2017، عاش إقليم كوردستان واحدة من أكثر لحظاته التاريخية إثارة للجدل والأمل معًا. فقد وقف الشعب الكوردي أمام صناديق الاقتراع ليصوّت في استفتاء تقرير المصير، معلنًا بأغلبية تجاوزت 92% من رغبته في الاستقلال عن العراق وتأسيس دولته الخاصة. كانت هذه اللحظة بالنسبة للكورد تتويجًا لمسيرة طويلة من النضال والمعاناة، وصياغة لإرادة جمعية لا يمكن إنكارها، إذ جسّد الاستفتاء أعمق ما يطمح إليه هذا الشعب منذ قرون. ومع ذلك، لم يتحول هذا الإنجاز إلى واقع سياسي ملموس، بل سرعان ما اصطدم بجدار من المصالح الدولية والإقليمية، وتعثر داخلي ألقى بظلاله على نتائجه، ليظل الاستفتاء وثيقة تاريخية مؤجَّلة تنتظر لحظة أنسب للتفعيل.

لم يكن المجتمع الدولي غافلًا عن نوايا الإقليم بإجراء الاستفتاء، فقد أُعلن عن موعده قبل أشهر، لكن القوى الكبرى آثرت الصمت في البداية، وهو صمت حمل في طياته الكثير من الإيحاءات والتفسيرات. في أربيل، فُسّر هذا الموقف على أنه ضوء أخضر غير معلن، يشبه إلى حد كبير ما حدث في انتفاضة عام 1991 حين دعا الرئيس الأميركي جورج بوش الأب العراقيين إلى الثورة على صدام حسين ثم تركهم فريسة للانتقام. إلا أن الموقف تبدل كليًا بعد إعلان النتائج، إذ قادت الولايات المتحدة جبهة الرفض بحجة الحفاظ على وحدة العراق، وتبعتها أوروبا بخطاب مماثل، بينما اتخذت روسيا مسارًا براغماتيًا ركّز على استثماراتها الاقتصادية في قطاع النفط بكوردستان. إقليميًا، كانت المعارضة أكثر حدة، فقد اعتبرت تركيا الاستفتاء تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، في حين رأت فيه إيران خرقًا لوحدة العراق وسعت بكل قوتها السياسية والعسكرية لإفشاله. في بغداد، استثمر رئيس الوزراء حيدر العبادي هذه البيئة الدولية والإقليمية الرافضة، ليعيد فرض سيطرة الدولة على كركوك والمناطق المتنازع عليها، ويطبق حصارًا اقتصاديًا وجويًا خانقًا، ما جعل الاستفتاء يتحول من أمل بالاستقلال إلى أزمة معقدة.

ولم يكن التحدي الخارجي وحده سبب الانتكاسة، بل كان الانقسام الداخلي الكوردي أشد خطورة. فقد أراد الحزب الديمقراطي الكوردستاني أن يُسجل الاستفتاء كمنجز قومي جامع باسم الشعب الكوردي، لكن بعض القوى الداخلية نظرت إليه من زاوية ضيقة، خشية أن يُحسب هذا الإنجاز لصالح البارتي وحده بقيادة الرئيس مسعود بارزاني. هذا التخوف الداخلي ترافق مع الضغوط الإقليمية، وظهر أثره بوضوح في أحداث 16 تشرين الأول 2017 حين انسحبت قوات مرتبطة بجناح في الاتحاد الوطني الكورستاني من مواقعها في كركوك، ما أتاح للقوات العراقية والحشد الشعبي دخول المدينة دون مقاومة حقيقية. بذلك تحوّل الاستفتاء من خطوة يفترض أن توحّد الكورد خلف مشروع وطني جامع إلى نقطة خلاف حزبي استثمرها الآخرون، فدفع الشعب الكوردي ثمنًا باهظًا بخسارة كركوك وتراجع الحلم الجامع إلى دوائر الانقسام والاتهامات المتبادلة.

ورغم قسوة ما أعقب الاستفتاء من أحداث، إلا أنّ قيمته الجوهرية لم تسقط، بل بقيت محفوظة في سجل التاريخ كوثيقة سياسية وقانونية لا يمكن محوها. فقد أثبت الكورد للعالم أنهم مارسوا حقهم في تقرير المصير عبر آلية ديمقراطية سلمية، بعيدًا عن العنف والفوضى. وهذه النتيجة لا تسقط بالتقادم، بل تبقى رصيدًا مؤجَّلًا يمكن استدعاؤه في كل أزمة جديدة بين بغداد وأربيل، أو في أي حوار مستقبلي حول شكل العلاقة الدستورية والسياسية بين والحكومة الاتحادية و الإقليم. 

وهنا تبرز إشارة مهمة نصت عليها ديباجة دستور العراق لعام 2005، إذ أكدت أن الالتزام بمواد الدستور هو الضمان الأساس لوحدة العراق. غير أن هذا الالتزام ظلّ موضع انتقاص وتأويل سياسي متكرر، ما جعل الإقليم يرى في الاستفتاء أداة لحماية إرادته من أي تجاوز محتمل على حقوقه الدستورية. فالالتزامات الدستورية لم تُنفَّذ كما نص عليها القانون الأعلى للدولة. إذ لم تُطبق المادة (140) الخاصة بالمناطق المتنازع عليها، رغم أنها كانت مقررة التنفيذ قبل نهاية عام 2007، وبقيت معلقة حتى اليوم. كما لم يُفعَّل قانون البيشمركه كما نصت المادة (9) من الدستور. فضلًا عن ذلك، تعرّضت مواد أساسية ضامنة لحقوق إقليم كوردستان في مجالات النفط والغاز والمالية لتهميش متعمد. وقد عبّر الرئيس الراحل جلال طالباني (مام جلال) عن هذه الأزمة بوضوح في أكثر من مناسبة، إذ صرّح في عام 2007 خلال لقاء سياسي رفيع بأن "عدم إقرار قانون النفط والغاز في البرلمان الاتحادي يشكّل فراغًا قانونيًا يفتح الباب أمام الإقليم للتعاقد مع الشركات النفطية بشكل مباشر"، مؤكدًا أن مسؤولية التشريع تقع على عاتق بغداد. ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، لم يُشرَّع هذا القانون رغم كونه منصوصًا عليه في المادة (112) من الدستور، وهو ما أبقى العلاقة النفطية بين الإقليم والحكومة الاتحادية رهينة للتجاذبات السياسية بدلًا من أن تكون محكومة بقانون واضح. وهذا الإخلال بالالتزامات الدستورية شكّل انتهاكًا مباشرًا للميثاق الوطني الذي يفترض أن يحمي وحدة العراق، وأثبت أن المشكلة ليست في مطالب الإقليم، بل في عجز الحكومات الاتحادية المتعاقبة عن احترام الدستور الذي وضعته بنفسها.

واليوم، وبعد مرور ثماني سنوات على ذلك الاستفتاء، تبدو الظروف الإقليمية والداخلية مهيأة لإعادة قراءة نتائجه بشكل مختلف. فالعراق لم يعد يملك سيادته كاملة، وقراره السياسي والعسكري موزع بين النفوذ الإيراني والوجود الأميركي، فيما تتكرر الضربات الإسرائيلية على أراضيه بلا رادع، وتسيطر الفصائل المسلحة على مفاصل أساسية تتجاوز في قوتها مؤسسات الدولة الرسمية. في ظل هذا الواقع، يغدو الاستفتاء وثيقة حيّة يمكن أن يستند إليها الكورد ليقولوا إن الشراكة التي وُعدوا بها منذ 2003 لم تتحقق، وإن التعايش الذي رُوّج له في إطار دولة اتحادية قد فشل. فكيف يُطلب من الإقليم أن يقبل بالبقاء رهينة داخل دولة لا تملك سيادتها ولا تستطيع حماية نفسها، بينما هو أقدر على إدارة شؤونه الاقتصادية والأمنية؟

من هنا يبرز السؤال الجوهري: ماذا يمكن أن يستفيد الإقليم من الاستفتاء في المستقبل في ظل هذه الظروف الصعبة؟ تكمن الإجابة في اعتباره رصيدًا سياسيًا مؤجَّلًا يمكن استثماره في الأزمات مع الحكومة الاتحادية أو عند اهتزاز المشهد الإقليمي، ودليلًا على أن التعايش لا يمكن أن يقوم من طرف واحد دون الاعتراف بإرادة الكورد المعلنة. فهو ورقة تفاوضية قوية مع بغداد، ورسالة للخارج بأن خيار الاستقلال لم يُلغَ بل جُمّد بفعل الضغوط الدولية والإقليمية. وبين حلم الأمس وأزمات اليوم، تبقى الحقيقة جلية: الاستفتاء لم يكن نهاية الطريق، بل بداية رحلة طويلة، وأن عراقًا بلا سيادة لا يمكن أن يكون وطنًا دائمًا لشعب صوّت ذات يوم من أجل حريته. وفي ظل هذه الظروف غير المستقرة، سيأتي اليوم الذي تُفعَّل فيه هذه الوثيقة لتكون بوابة نحو استقلال طال انتظاره.