الحرب خلف الستار: وصمود الكابينة التاسعة في كوردستان

الحرب خلف الستار: وصمود الكابينة التاسعة في كوردستان
الحرب خلف الستار: وصمود الكابينة التاسعة في كوردستان

منذ أن تولى مسرور بارزاني رئاسة حكومة إقليم كوردستان في عام 2019، وجدت الكابينة التاسعة نفسها في قلب حرب خلف الستار. لم تكن حربًا عسكرية تُخاض بالمدافع والدبابات، بل حربًا مالية واقتصادية وُضع لها إطار قانوني بمبررات حسب تفسير الجهات المعنية، تستهدف كيان الإقليم واستقراره. وقد بدأت ملامحها منذ عام 2014، لتستمر حتى اليوم كحرب تُطبخ على نار هادئة، كي لا يشعر بها الشعب، فتُدار بخفاء وبطء لتضعف الإقليم تدريجيًا. وأضيف إلى ذلك أزمة الرواتب المزمنة التي تحولت إلى حصار داخلي أنهك المواطنين وأضعف ثقتهم بالمؤسسات، في وقت لجأت فيه بغداد إلى تجفيف الموازنة وقطع الموارد عبر قرارات لا تستند إلى الدستور.

أمام هذه التحديات، لم يقف الإقليم مكتوف اليدين. فقد تحولت الكابينة التاسعة إلى حكومة مواجهة أدركت أن الحرب الاقتصادية لا تُرد بالشعارات، بل بإصلاح مؤسساتي وإداري يعزز من مرونة الدولة. وفي هذا الإطار، اتخذت خطوات بارزة على صعيد الرقمنة وتحديث الخدمات العامة، فظهرت الأجهزة الإلكترونية لسحب الرواتب وتوسّع استخدام الأنظمة الرقمية لتقليص البيروقراطية والحد من الفساد. كما شهد قطاع الكهرباء نقلة نوعية، فبعد عقود من الانقطاع والاضطراب منذ عام 1991، تحقق إنجاز بارز تمثل في توفير الطاقة الكهربائية على مدار الساعة للمواطنين. وإلى جانب ذلك، اتجهت الحكومة نحو تعزيز الاعتماد على الموارد المحلية من خلال استثمار المحاصيل الزراعية وتشغيل المصانع الغذائية ومصانع الألبان، مما وضع لبنات أساسية لاقتصاد أكثر صلابة.

غير أن هذه الحرب لم تعد تُدار من الخارج فحسب، بل تسللت إلى الداخل عبر استغلال أزمة الرواتب. فالمواطن الذي حُرم من راتبه الشهري اندفع إلى الشارع وهو يعتقد أن الخلل ناجم عن حكومة الإقليم، بينما الحقيقة أن المركز تعمّد قطع التحويلات المالية، في الوقت الذي جرى فيه استغلال المعارضة الداخلية لتأجيج الغضب الشعبي. وهكذا وجد الناس أنفسهم، من دون وعي، جزءًا من حرب صامتة تُدار في الخفاء وبأساليب غير معلنة، غايتها النهائية إضعاف التجربة الكوردية وإعادة اختزالها تحت مسمى “شمال العراق”.

ومع ذلك، فإن المشهد على الأرض يكشف عن صورة مغايرة لما يظنه المتعب من تفاصيل يومه. فالزائر القادم من جنوب العراق ووسطه، حين يصل إلى مدن كوردستان، يلحظ بوضوح توسع المشاريع السياحية وتطور البنى التحتية وزيادة حركة الاستثمار. وهنا تظهر المفارقة؛ إذ يقارن هؤلاء الزوار بين ما يعيشونه في مناطقهم من تراجع وحرمان، وبين ما يرونه في الإقليم من استقرار نسبي وازدهار. فالحكومة الاتحادية بهذه السياسات غير الدستورية تضرب عصفورين بحجر واحد: من جهة تُسكت شعبها في الوسط والجنوب عبر تبرير الأزمات وإلقاء اللوم على الإقليم، ومن جهة أخرى تُضعف كوردستان سياسيًا واقتصاديًا، بينما تخفي في الخفاء عيوبها الداخلية وملفات الفساد المستشري فيها.

وعليه، فإن ما تشهده كوردستان اليوم لا يمكن اختزاله في مجرد خلاف مالي مع بغداد، بل هو في جوهره حرب خلف الستار تُدار بأدوات اقتصادية وقانونية، تتخذ من ملف الرواتب عنوانًا مركزيًا وتهدف إلى تقويض التجربة الكوردية. ومع تصاعد الضغوط واستمرار القرارات غير الدستورية، يبقى الحكم للتاريخ في تحديد من يخرج أكثر قوة من هذه الحرب الصامتة: هل هو الطرف الذي يمتلك إرادة الإصلاح والبناء، أم من جعل من تجويع المواطنين وقطع أرزاقهم أداة سياسية؟ إن الوعي بطبيعة هذه الحرب – بوصفها حربًا تُمارس في الخفاء وبأساليب غير معلنة – يُعدّ عنصرًا جوهريًا في صون التجربة الكوردية وتعزيز صمودها، ويجعل من وعي المجتمع ذاته خط الدفاع الأول عن بقاء الإقليم واستقراره.