صرخة البطريرك ساكو: دفاعٌ عن حقوق المسيحيين وكرامة العراق

الكاردينال مار لويس روفائيل ساكو
الكاردينال مار لويس روفائيل ساكو

في زمنٍ تُصادر فيه الحقيقة بأصواتٍ مرتفعة وأموالٍ فاسدة وسلاحٍ منفلت، يخرج صوتٌ هادئٌ لكنه صارم، من أعماق الكنيسة الكلدانية، حاملاً رسالة ضميرٍ ووجدان. 

بيان غبطة البطريرك الكاردينال مار لويس روفائيل ساكو، بطريرك الكلدان في العراق والعالم، حول الانتخابات البرلمانية لعام 2025، ليس مجرّد توجيهٍ كنسي، بل وثيقةُ موقفٍ وطنيٍّ وأخلاقي، تُعيد رسم حدود الصدق في زمنٍ امتلأ بالادعاء.

(الكنيسة الكلدانية: صوت الإيمان والهوية الوطنية) 

تمثّل الكنيسة الكلدانية أكثر من 80% من مسيحيي العراق وكوردستان، وهي لم تكن يوماً مجرد مؤسسة دينية، بل ضميرٌ وطنيٌّ متجذر في تاريخ هذا البلد. لقد وقفت هذه الكنيسة بجانب شعبها في كل المآسي، وحين كان الآخرون يلوذون بالصمت، كانت تصرخ في وجه الباطل، مؤمنةً بأن الإيمان الحق لا يكتمل إلا بالحرية والكرامة. قال الرب يسوع المسيح: “وتعرفون الحق، والحق يحرركم” (يوحنا 8:32). ومن هذا المنطلق، فإن بيان البطريرك ساكو جاء نداءً للحرية من الاستعباد السياسي والمليشياوي، ودعوةً لأن يُمارس المسيحيون حقهم في التصويت بشجاعة ووعي، دون خوفٍ أو خضوعٍ أو إغراءٍ زائف.

(رفض السلاح والفساد... دفاع عن العدالة) 

لقد وضع البطريرك إصبعه على الجرح حين أشار إلى أن فصائل مسلحة، تتخذ كذباً وبهتاناً وزيفاً من المسيحية ستاراً، تمارس سطوتها على بلدات سهل نينوى وتتحكم بمصيرها. فقد تحوّل استعمال اسم الدين المقدس من قبل هذه الفصائل عند البعض إلى وسيلةٍ يستعملوها للنهب والسيطرة والتربّح، حتى صارت الكنيسة ترى أبناءها رهائن لواقعٍ يفرضه السلاح والمال والخوف، لا القانون والضمير. وهنا نستذكر مقولة الرئيس الأمريكي الراحل دوايت آيزنهاور: “الأمم لا تُبنى على الخوف، بل على الإيمان والاحترام والعدالة.” الكنيسة الكلدانية رفضت هذا الواقع، وأعلنتها بوضوح: لن نقبل أن يُمثل المسيحيين فاسدون أو ميليشيات، ولن يُسمح بأن تُختطف هوية المكوّن المسيحي على أيدي جماعات دخيلة تموّل نفسها من المكاتب الاقتصادية وتشتري الذمم بالمال الحرام. الفساد لا يسرق المال فقط، بل يسرق الإنسان ذاته. وقد قال البابا فرنسيس: “الفساد ليس عملاً، إنه عبودية، إنه يُميت روح الأمة".

(المال السياسي... حين يتحول الصوت إلى سلعة) 

ما أشار إليه البيان من خطورة المال السياسي يجب أن يُقرأ كتحذير وطني. فالأحزاب والتحالفات المسيحية  الكلدانية والآشورية والسريانية الوطنية التي تعمل بميزانيات محدودة، لا تستطيع مجاراة مليارات تُضخ من خلف الكواليس والحدود، فتُشترى الأصوات وتُباع الكرامة ويُزيّف التمثيل. وهكذا تصبح الكوتا المسيحي، التي خُلقت لضمان تمثيل المكوّن، رهينة بأيدي من لا يمثلونه إطلاقاً. وكما قال الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو: “كل سلطةٍ لا يقيّدها ضمير، تُصبح فساداً مطلقاً".

(صوت البطريرك نداء للدولة العراقية) 

في لحظةٍ من الصراحة الأخوية والشجاعة الخالصة والتوجيه الأبوي، وجّه البطريرك ساكو نقداً مباشراً للحكومة العراقية التي لم تُنصف المكونات الدينية والقومية العراقية الأصيلة، ولم تستجب لمطلبهم المشروع بحصر التصويت في الكوتا على أبناء المكوّن المسيحي فقط، ضماناً لتمثيلٍ حقيقي غير مخترق. هذا المطلب ليس ترفاً، بل هو لبّ العدالة والمواطنة المتساوية. فكما قال المفكر البريطاني إدموند بورك: “الشر ينتصر فقط عندما يقف الأخيار متفرجين.” والبطريركية قالت كلمتها في حين صمت الآخرون ووقفوا متفرجين حيناً ومتواطئين احياناً اخرى، ولكن التاريخ يسجل المواقف. 

(السلاح المنفلت... جرح الوطن العميق) 

حين تكون في بلدةٍ مسيحية أو إيزيدية، وتجد أن القرار ليس بيد المؤسسات الأمنية والعسكرية الدستورية، بل بيد فصيلٍ مسلحٍ يتعامل كعصابة ومافيا، فاعلم أننا أمام فقدانٍ فعليٍّ لسيادة الدولة. إن سيادة العراق لا يمكن أن تُجزّأ، وحصر السلاح بيد الدولة ليس شعاراً، بل شرطُ بقاء الدولة ذاتها، فالسلاح المنفلت دمار شامل.  وكما قال ونستون تشرشل: “لا يمكن لأمةٍ أن تضمن حريتها إذا تركت سلاحها في يد غيرها.” وهنا نستعيد ما قاله النبي إشعيا: “ويلٌ للذين يُصدرون أوامر الظلم ويكتبون أحكام الجور". (إشعيا) 

(الكنيسة كصوت الضمير) 

الكنيسة الكلدانية، بقيادة البطريرك ساكو، ليست ضد أحد، بل مع الجميع. إنها تدعو إلى عراقٍ قوي وصاحب سيادة يتسع لجميع أبنائه، وتُعلن كما في الإنجيل: “طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون.” (متى 5:9) وهذا النداء يتجاوز الجغرافيا والاديان والقوميات والطوائف، لأنه نداء الضمير الوطني. فحين يصدح صوت قائد ومرجع ديني في وجه الفساد، يكون قد أدى أسمى واجبات الإيمان: أن يكون نوراً في الظلمة. وكما قال نيلسون مانديلا: “السكوت في وجه الظلم يعني المشاركة في الجريمة.” والبطريرك ساكو اختار ألا يصمت، لأنه يدرك أن الصمت أمام الباطل هو خيانة للحق.

 (الهدف والمغزى والمطلب: نحو شراكة وطنية عادلة وتمثيل حقيقي)

إنّ صرخة البطريرك ساكو ليست موجّهة للمسيحيين وحدهم، بل لكل العراقيين الذين يؤمنون بوطنٍ تسوده العدالة والشفافية وتُصان فيه الكرامة.

فالمسيحيون، ومعهم التحالف المسيحي في العراق وإقليم كوردستان، لا يطلبون امتيازات، بل حقوقًا دستورية عادلة تضمن تمثيلهم الحقيقي وحضورهم الوطني الفاعل، بعيدًا عن الهيمنة والتزوير والإقصاء.

نحن نطالب اليوم الدولة العراقية، بكل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية، بأن تحمي أصوات المكونات والأقليات من التلاعب والاختراق من قبل الفصائل المسلحة وامتداداتها وأذرعها السياسية، وتُعيد النظر في آلية انتخاب “كوتا المكوّن المسيحي” بحيث تكون حصراً بيد أبناء المكوّن أنفسهم، لا أن تُستخدم كورقة نفوذ سياسي من خارج المكوّن. فاليوم فجعنا بأقصاء العديد من المرشحين المسيحيين دون وجه حق ولاسباب واهية وغير منطقية، ولا زالت المحاولات مستمرة لإقصاء مجموعة اخرى، لا بل منذ الان وقبل اجراء الانتخابات استحوذت المليشيات على مقاعد الكوتا لمحافظات برمتها، عن طريق الإقصاء قبل الانتخابات، كما وفجعنا ايضا بالكم الهائل للمليارات التي تم ضخها من قبل المكاتب الاقتصادية للفصائل المسلحة لدعم اذرعها السياسية وفضائياتهم وجيوشهم الالكترونية لاختطاف التمثيل المسيحي في مجلس النواب العراقي. كل هذه الخروقات ولم نلتمس حركة واحدة من مؤسسات الحكومة والدولة العراقية لردع هذه الانتهاكات بحقّ المسيحيين ابناء بلاد الرافدين الأصلاء. 

إنّ مطلبنا هو دولة مواطنةٍ عادلة لا يعلو فيها صوت السلاح على صوت القانون، وديمقراطية تُبنى على الثقة لا على المال السياسي الفاسد، وشراكة في مؤسسات حكومية قوية وذات سيادة، وتعديل قانون واجراءات انتخابات الكوتا المسيحية من خلال تخصيص يوم وصندوق وورقة اقتراع وسجل ناخبين خاص بالمسيحيين وحصر التصويت بهم فقط ليكون ممثليهم المنتخبين في البرلمان حقيقين، والعكس هو الإبقاء على وكلاء لفصائل مسلحة تديرها اجندات غير وطنية.

فليس من المعقول ولا المقبول ان يكون الفائز بأصوات المسيحيين في قراهم وبلداتهم ومدنهم خاسراً والحاصل على اصوات غير المسيحيين عن طريق الفصائل المسلحة من مناطق غير مسيحية فائزاً ومستحوذ على مقاعد كوتا المسيحيين، فأين الإنصاف؟ اين الإنسانية في هذا؟ ما يحدث الان في العراق انتهاك صريح وصارخ لحقوق الإنسان وحقوق الاقليات والمكونات الدينية والقومية واختطاف لحقوقهم وتمثيلهم النيابي والحكومي من قبل الفصائل المسلحة وأذرعها السياسية امام أنظار الحكومة والدولة العراقية وعلى مرأى ومسمع من المجتمع الدولي. 

فالتحالف المسيحي يرى أنّ الانتخابات النزيهة ليست مجرد سباقٍ سياسي، بل من اهم الممارسات الديمقراطية واختبارٌ لضمير الدولة العراقية ومدى إيمانها بحقوق مكوناتها الأصيلة.

ونذكّر بما قاله القديس بولس الرسول: "لأن الله لم يعطنا روح الفشل، بل روح القوة والمحبة والنصح". (2 تيموثاوس 1:7)

من هذا الإيمان نستمد قوتنا، ومن هذا الوطن نستمد انتماءنا، وسنبقى نعمل من أجل عراقٍ حرٍّ عادلٍ تُحترم فيه الكرامة الإنسانية، ويكون فيه المسيحيون شُركاء لا متفرّجين، مواطنين لا ضيوفًا، صانعين للسلام لا ضحايا للصمت والقهر.

(خاتمة: أمل ورجاء لا يُقهر)

سيبقى المسيحيون، رغم كل الجراح، واقفين على أرضهم، متمسكين بإيمانهم وهويتهم، لأنهم يعرفون أن الرجاء لا يُخزي. “إن كنا نتألم معه، فلكي نتمجد أيضاً معه.” (رومية 8:17) لقد أعاد بيان البطريرك ساكو للضمير العراقي نبضه، وللمشهد السياسي العراقي توازنه الأخلاقي، مذكّراً الجميع أن من يُريد أن يحكم الناس، عليه أولاً أن يخدمهم لا أن يستعبدهم. وكما قال القديس أوغسطينوس: “الدولة بلا عدالة ليست سوى عصابةٍ كبيرة.” فالكنيسة الكلدانية، كما ختم بيانها: “لن تبيع نفسها، ولن تستسلم للظلم، وسيبقى ولاؤها للعراق، وللعراقيين أجمعين.” وهكذا المسيحيين جميعهم. وفي ذلك تختصر جوهر القضية: الإيمان الحق هو موقف، والموقف الشريف هو أرقى أشكال الانتماء الوطني.

"مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ". ( متي ١١ : ١٥)