أين نحن من صون البيت الكوردي؟

أين نحن من صون البيت الكوردي؟
أين نحن من صون البيت الكوردي؟

البيت الكوردي، هذه العبارة التي تطرق أسماعنا فتهزّ فينا أوتار الذاكرة والعاطفة معًا، ليست مجرد تركيب لغوي بليغ، بل هي استعارة تحمل في داخلها شحنات من الوجع والأمل، من التشتت والرجاء. فالبيت، في كل الثقافات، رمز للأمان والملاذ والدفء، وعندما يقترن بالكوردي، يصبح مرادفًا للحنين إلى وحدةٍ مفقودة، ولإصرارٍ على لملمة شظايا التمزق التي فرضتها خناجر التاريخ وزلازل الجغرافيا.

لقد عانى الكورد عبر قرون طويلة من ظلم الآخرين وتجاهل حقوقهم، كما عانوا من الانقسامات الداخلية التي أضعفتهم وفتحت الأبواب أمام خصومهم لينفذوا إلى عمقهم. في كل مرة كان يُطرح فيها شعار “صون البيت الكوردي”، كان الكوردي البسيط يلتقط المعنى فورًا دون شروحات؛ لأنه يعيش في أعماقه حاجة حقيقية لهذا البيت، حاجة لأن يكون له سقف واحد يظله، وجدران تحميه، وركائز تمنحه الثبات.

في غرب كوردستان (كوردستان سوريا)، نردد هذا الشعار أكثر من غيرنا، ربما لأن بيتنا نحن تحديدًا يشكو من تصدعات عميقة في جدرانه، ومن هشاشة واضحة في أساساته. هنا، حيث الأحزاب تتناحر على تفاصيل صغيرة وتغفل عن القضايا الكبرى، وحيث القوى تتوزع بين المحاور الإقليمية والدولية بدل أن تتوحد على هدف واحد، يصبح الحديث عن “البيت الكردي” صرخة في وجه الإهمال والتقاعس، لا مجرد ترفٍ سياسي أو شعار مناسباتي.

إن وحدة الصف الكوردي ليست ترفًا سياسيًا، ولا مجرد ورقة تفاوضية تُستخدم عند الحاجة. إنها ضرورة وجودية، وهدف استراتيجي لا يمكن الاستغناء عنه. فالشعب الذي تتهدده الأخطار من كل جانب لا يملك رفاهية التشتت، ولا يجوز أن يظل أسيرًا للأنانيات الحزبية والحسابات الضيقة. الوحدة الحقيقية لا تقوم على الشعارات الفارغة، بل على قاعدة الشراكة الفعلية، الشراكة التي يشعر فيها كل طرف أن له مكانًا ودورًا وصوتًا، وأنه لا يُستبعد ولا يُقصى ولا يُستعمل كديكور سياسي.

ولعلّ من الإنصاف القول إن الرئيس مسعود بارزاني لعب دورًا محوريًا ومباشرًا في الدفع نحو وحدة الصف الكوردي، إدراكًا منه أن اللحظة التاريخية التي نعيشها لا تحتمل التشرذم. لقد كان حضوره عامل ثقة، وحرصه ضمانة للاستمرار، لكن المشكلة ليست في المبادرات ولا في الدعم، بل في مدى صدق الأطراف المعنية والتزامها بروح هذه الوحدة. فالشراكة الكوردية التي بُذل لأجلها جهد كبير تتعرض اليوم لامتحان عسير، إذ يحاول بعض الشركاء تمييعها وتحويلها إلى مجرد واجهة شكلية لا مضمون لها. وهنا يكمن الخطر الأكبر، لأن الشعب لم يعد يقبل بالمظاهر الخادعة، ولا بالوحدات المزيفة التي تنهار عند أول اختبار.

إن صون البيت الكوردي مسؤولية جماعية، وليست واجب حزب بعينه أو مؤسسة بعينها. إنها التزام أخلاقي ووطني وقومي يقع على كاهل الجميع: السياسيين والمثقفين والأكاديميين والإعلاميين والناشطين. كل من يساهم في تقوية هذا البيت يكتب اسمه في سجل التاريخ بمداد الفخر، وكل من يتهرب من هذه المسؤولية أو يعمل على تخريبها سيلاحقه التاريخ بلعناته، ولن يجد له مكانًا إلا في هامش النسيان.

قد يقال إن هذه الكلمات مشحونة بالعاطفة أكثر من السياسة، لكن الحقيقة أن العاطفة في الحالة الكوردية ليست ضعفًا، بل مصدر قوة. فالإصرار على صون البيت الكوردي ينبع من حاجة داخلية عميقة، من شعور جمعي متوارث بأن الفرصة تضيع منا كل مرة بسبب خلافاتنا نحن، أكثر مما تضيع بسبب قوة خصومنا. وإن استمرت هذه الحال، فلن يكون أمامنا سوى التيه من جديد، وهذه المرة قد لا تقوم لنا قائمة لزمن طويل.

أين نحن اليوم من صون البيت الكوردي؟ سؤال يجب أن نطرحه على أنفسنا قبل أن نطرحه على الآخرين. هل نحن صادقون في مساعينا لبناء بيت متماسك أم أننا ما زلنا نحمل معاول الهدم في أيادينا؟ هل نحن نعمل على رتق الشقوق أم أننا نوسعها بوعي أو بلا وعي؟

البيت الكوردي، كما هو الآن، يئن من الوجع، يفتقد الأمان والطمأنينة. لكن الأمل لم ينطفئ بعد. فما زال بيننا قلوب صادقة تؤمن بالوحدة وتسعى إليها، وما زالت هناك طاقات يمكن أن تعيد بناء الجدران المهدمة. المطلوب أن نرتقي جميعًا إلى مستوى المسؤولية، وأن نضع حلم شعبنا فوق كل الاعتبارات الضيقة.

فإما أن نكون قلبًا واحدًا في مواجهة التحولات القادمة، ونُثبت أننا أهلٌ لحلمنا الكبير، أو نستسلم للانقسامات فنضيع مرة أخرى في دهاليز التاريخ. والخيارات واضحة أمامنا، والمسؤولية جسيمة، والتاريخ لن يرحم المتخاذلين.