الفيدرالية الواقعية ودورها في الاستقرار السياسي: تحليل كوردستاني

الفيدرالية الواقعية ودورها في الاستقرار السياسي: تحليل كوردستاني
الفيدرالية الواقعية ودورها في الاستقرار السياسي: تحليل كوردستاني

تشكّل تجربة كوردستان إطارًا عمليًا لدراسة تطبيق الفيدرالية في العراق، وقياس أثرها على الاستقرار السياسي وبنية الدولة الاتحادية. فالانتخابات وتوزيع الصلاحيات بين المركز والأقاليم لا يُختزلان في التنافس على المقاعد، بل يعكسان اختبارًا حقيقيًا لقدرة النظام السياسي على إدارة التعددية وتحقيق التوازن بين المكونات، وضمان العدالة في السلطة والثروة، وترسيخ الثقة بين الفاعلين السياسيين.

منذ عام 2003، استطاعت كوردستان أن تبني مؤسساتها الدستورية وتدير مواردها بشكل يعبّر عن إرادة سكانها. فقد طوّرت الإقليم بنية إدارية فعّالة في مجالات الخدمات الأساسية، كالكهرباء والماء والتعليم والصحة، ونجحت في حماية كرامة المواطن ورفع مستوى معيشته. هذا النجاح لا يمكن قراءته بمعزل عن الإطار الدستوري للفيدرالية الواقعية، الذي يمنح الأقاليم مساحة للإدارة الذاتية ضمن وحدة الدولة، ويحد من تركّز القرار في المركز، ويحوّل المشاركة إلى ممارسة عملية لا إلى شعارات سياسية.

في المقابل، تكشف التجربة المركزية في بغداد عن استمرار نزعة التحكم والسيطرة، التي أعادت إنتاج عقلية ما قبل الدستور، فضعفت مؤسسات الدولة الاتحادية، وتراجعت مفاهيم الشراكة والتوازن والتوافق إلى مجرد أدوات تفاوض مؤقتة. هذا النهج يعكس فشلًا في استيعاب جوهر الفيدرالية بوصفها نظامًا لتوزيع السلطة لا لتجزئتها، ويؤكد الحاجة إلى إصلاح مؤسسي شامل يعيد تعريف العلاقة بين المركز والأقاليم وفق منطق الدستور لا منطق القوة.

إن تطبيق الفيدرالية الواقعية لا يتحقق بالشعارات أو النوايا السياسية، بل عبر منح المحافظات والأقاليم صلاحيات حقيقية تستند إلى حاجاتها وإرادة سكانها، وإعادة تنظيم توزيع الموارد والمسؤوليات بصورة عادلة وشفافة. كما يتطلب تفعيل المؤسسات الرقابية والتشريعية لضمان المساءلة ومنع تغوّل المركز، بما يعزز ثقة المواطن بالدولة ويحول دون احتكار السلطة أو توظيفها لأغراض سياسية ضيقة.

تُظهر تجربة كوردستان أن الفيدرالية الواقعية يمكن أن تكون عامل استقرار لا تهديد للوحدة الوطنية، إذا ما طُبقت وفق أسس الشراكة والاحترام المتبادل. فالإدارة القريبة من المواطن تُسهم في تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وتخلق شعورًا بالانتماء والثقة، بينما تؤدي المركزية المفرطة إلى الإقصاء والتهميش وتآكل الشرعية السياسية.

تشير المعطيات إلى أن مستقبل العراق السياسي مرتبط بقدرته على الانتقال من الفيدرالية الشكلية إلى الفيدرالية الفعلية، أي من النصوص الدستورية إلى السياسات التنفيذية. فنجاح الدولة في تحقيق هذا التحول سيعني ترسيخ الاستقرار وتعميق الديمقراطية وتوسيع المشاركة الوطنية، في حين أن الفشل في ذلك سيبقي العراق رهين أزماته البنيوية القائمة على الصراع بين المركز والأطراف.

من هذا المنطلق، يمكن القول إن تجربة كوردستان لا تمثل استثناءً في النظام العراقي، بل فرصة لإعادة بناء الدولة على أسس الشراكة والتوازن والتوافق. فهي تقدّم نموذجًا عمليًا لكيفية إدارة التنوع المكوناتي في إطار فيدرالي متوازن، بعيدًا عن المركزية المفرطة، بما يعزز قدرة العراق على مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بروحٍ اتحاديةٍ ناضجة، تجعل من الفيدرالية الواقعية ركيزةً للاستقرار لا مصدرًا للخلاف.