صديق شرنخي
سياسي وكاتب
زيارة فيدان إلى بغداد والشرع إلى واشنطن: خنق الوجود الكوردي في سوريا بين التفاهمات الإقليمية والصفقات الدولية
تشهد الساحة الكوردية هذه الأيام تحوّلات متسارعة تنذر بمعادلة صفرية قد تفضي إلى اختناق المشروع الكوردي في سوريا والعراق معًا، ضمن ترتيبات إقليمية ودولية معقدة، تتقاطع فيها مصالح أنقرة ودمشق وواشنطن على نحو غير مسبوق.
فزيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى بغداد، بالتزامن مع زيارة الشرع إلى واشنطن، ليستا حدثين منفصلين، بل حلقتان متكاملتان في سلسلة تهدف إلى إنهاء أي وجود كوردي منظم خارج السيطرة المركزية للدول المحيطة.
المعادلة الصفرية ومسارها التركي
نجحت تركيا خلال السنوات الأخيرة في إخراج قوات حزب العمال الكوردستاني (PKK) من شمال كوردستان بشكل شبه كامل، بعد أن كانت هذه القوات قد أزاحت سابقًا كل القوى الكوردية المنافسة بحجة “الهيمنة الثورية” على الساحة.
ثم جاء قرار عبد الله أوجلان التاريخي بإنهاء أي عمل عسكري في الداخل التركي والانسحاب نحو جبال قنديل، ظنًا منه أن تلك الخطوة قد تحفظ قوة الحزب مستقبلاً.
لكن زيارة فيدان إلى بغداد كشفت الوجه الآخر للاتفاق بين أنقرة وأوجلان، إذ طالب علنًا بخروج قوات PKK من العراق وسوريا معًا، مؤكدًا أن ذلك “تنفيذ لتعهدات سابقة”.
والمؤكد أن تركيا ستحقق هذا الهدف عبر أدوات سياسية وأمنية متعددة، مستفيدة من حالة التراجع الداخلي والتنازلات المتسارعة من قيادة الحزب، التي ما زالت تراهن على وعد مستحيل بإطلاق سراح “القائد”.
التنازلات السورية ومسار الشرع
في المقابل، تتحرك دمشق بخطى محسوبة نحو إعادة دمج النظام السوري في الإقليم والعالم.
فالشرع – الذي عاد ليؤدي دورًا سياسيًا مفصليًا – يجول بين واشنطن والعواصم العربية مقدّمًا كل ما يمكن تقديمه من تنازلات باسم “الاستقرار السوري”.
ومن الواضح أن النظام يسعى لتطبيع شامل مع تركيا والعراق والسعودية وقطر وحتى إسرائيل، مقابل تثبيت شرعيته ورفع العقوبات تدريجيًا.
هذا المسار تم بالتنسيق غير المعلن مع شخصية مثل توماس باراك، الذي تحول إلى “عضو شرف” في إدارة الشرع، لتنفيذ أجندة بريطانية – أمريكية قديمة تعيد رسم خريطة المشرق العربي، مع وعود بتفاهمات مع إسرائيل ولبنان وإضعاف حزب الله، وكل ذلك على حساب الأطراف الكوردية التي جرى تهميشها كليًا.
انكشاف الساحة الكوردية في سوريا
في ظل هذه التحولات، يبدو أن مصير “قسد” والإدارة الذاتية في روج آفا يقترب من نهايته.
فالظروف المحلية والإقليمية والدولية تسير جميعها بعكس مصلحتها.
داخليًا، تصاعدت حملة التحريض العنصري والشوفيني ضد الكورد، إذ قدم النظام ومعارضته على حد سواء الإدارة الذاتية على أنها “قوة احتلال” يجب إنهاؤها.
أما إقليميًا، فالتفاهمات بين دمشق وأنقرة وبغداد تجري على قدم وساق دون أي اعتبار لشراكة قسد السابقة مع التحالف الدولي.
وأما دوليًا، فواشنطن ولندن تمهدان بهدوء لإعادة هيكلة النظام السوري مقابل تنازلات إقليمية، في وقت فقدت فيه قسد كل أوراقها التفاوضية.
أخطاء قاتلة في السياسة الكوردية
من الإنصاف القول إن جزءًا كبيرًا من هذا التدهور يعود إلى أخطاء ذاتية داخل البيت الكوردي.
فالإدارة الذاتية لم تنفتح على أبناء شعبها عبر القوى والأحزاب القومية الأخرى، ولم تمد يد التعاون العسكري مع بيشمركة روج رغم ما يجمعهما من هدف قومي مشترك.
كما تجاهلت فرص بناء علاقات سياسية متوازنة مع إسرائيل – الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة – رغم أن تحالفًا كهذا كان يمكن أن يوفر لها توازنًا في مواجهة المحور المعادي للكورد.
وفوق ذلك، لم ترفع القيادة الكوردية سقف مطالبها لتعبّر عن طموحات الشعب الكوردي الحقيقية، وظلت تراوح بين الشعارات الفضفاضة وواقع التبعية الميدانية.
نحو أفق قومي جديد
كل المؤشرات تدل على أن مشروع الإدارة الذاتية يسير نحو الانكماش وربما التصفية التدريجية ضمن ما يمكن تسميته “خطة الخنق الثلاثي”: تركية – سورية – أمريكية، تُنفذ بخطوات محسوبة ومتناغمة.
لكن رغم قتامة المشهد، يبقى الأمل في إعادة بلورة مشروع كوردي جامع، يقوم على وحدة الصف القومي، والانفتاح الواقعي على التحالفات الإقليمية والدولية، واستعادة القرار الكوردي المستقل.
فالتاريخ أثبت أن الكورد يُهزمون حين يتفرقون، وينهضون حين يجتمعون على كلمة واحدة.