مسعود بارزاني: بين نداء السلام ورفض ثقافة الإقصاء… قراءة في خطاب الصراحة قبل لحظة الحسم

مسعود بارزاني: بين نداء السلام ورفض ثقافة الإقصاء… قراءة في خطاب الصراحة قبل لحظة الحسم
مسعود بارزاني: بين نداء السلام ورفض ثقافة الإقصاء… قراءة في خطاب الصراحة قبل لحظة الحسم

في حديث متلفز طال انتظاره، خرج الرئيس مسعود بارزاني بهدوئه المعهود، غير أن الهدوء هذه المرة كان عاصفة من الرسائل السياسية المبطّنة والمعلنة في آنٍ واحد. مقابلة جاءت في توقيت بالغ الحساسية، قبل 48 ساعة فقط من انتهاء الحملات الانتخابية، لتفتح أبواب النقاش على مصراعيها حول مستقبل العملية السياسية في العراق، وشكل الحكومة المقبلة، وموقع إقليم كردستان في معادلة الدولة والدستور والشراكة الوطنية.

منذ اللحظة الأولى للمقابلة، بدا بارزاني كما عرفناه، صريحًا لا يوارب، هادئ النبرة لكن شديد الوضوح في المعنى. بدأ حديثه بابتسامة حملت بين طياتها تاريخًا من النضال، ومرارة من الخيبات، وإصرارًا لا يلين على أن تبقى الكلمة الصادقة هي السلاح الأقوى في معترك السياسة. لم يكن اللقاء مجرد حوار إعلامي؛ بل أقرب إلى مراجعة تاريخية لمسار طويل من التجربة العراقية الحديثة، وموقف ثابت من فكرة رفض الآخر، التي وصفها بارزاني بأنها أصل كل الأزمات في البلاد منذ عقود.

قالها بوضوح لا لبس فيه: “رفض ثقافة الآخر هو ما أوصلنا إلى ما نحن فيه.” لم يكن يقصد طرفًا بعينه، بل ذهنية كاملة حكمت أغلب الحكومات المتعاقبة قبل و بعد سقوط النظام السابق. ذهنية تنظر إلى الشراكة من زاوية الهيمنة لا التوازن، وتتعامل مع الدستور بوصفه ورقة تفاوض لا عقدًا وطنيًا مقدسًا. في المقابل، يطرح بارزاني رؤية مغايرة تمامًا: القبول بالآخر لا على أساس الهوية أو المذهب، بل على أساس المواطنة والشراكة الحقيقية، التي يكفلها الدستور ويضمنها التوافق.

في تحليله لمسار العملية السياسية، لم يُخفِ الرئيس امتعاضه من سلوك بعض القوى التي تنصلت من الاتفاقات السابقة، أو تعاملت مع الإقليم بمنطق الوعود المؤجلة. لكنه، وكعادته، لم يستخدم لغة الاتهام أو التشهير، بل آثر الوضوح الدبلوماسي. قال إن التنصل من الالتزامات أمر مؤسف، لكنه أهون من الخيانة، لأن الخيانة كلمة كبيرة وثقيلة لا تليق إلا بمن خان شعبه ودماء الشهداء. أما من نكث بالعهود السياسية، فالأجدر أن يُمنح فرصة للمراجعة، لأن السياسة – كما قال – هي فن الممكن، ولكن ليس على حساب الكرامة أو الشراكة.

وفي هذا الإطار، شدد بارزاني على أن أي حكومة مقبلة لن تكون كسابقاتها. “لا شراكة شكلية بعد اليوم”، بهذه العبارة وضع الرئيس خطًا واضحًا بين الماضي والمستقبل. فالمطلوب حكومة تعترف بالدستور لا بالتصريحات، بل بالأفعال والاتفاقات الموقعة منذ عشرين عامًا. فالدستور، كما وصفه، ليس وثيقة جامدة بل عقدًا وطنيًا كتب بدماء وتضحيات الكورد والعرب والتركمان وسائر مكونات العراق. لذلك، فإن العودة إلى هذا العقد هي المدخل الوحيد لبناء دولة حقيقية قائمة على التوازن والعدالة.

لم تقتصر رسائل بارزاني على الداخل العراقي. فقد وجّه أيضًا إشارات واضحة إلى المجتمع الدولي، وخصوصًا إلى الولايات المتحدة، التي ما زالت حاضرة في المشهد العراقي عسكريًا وسياسيًا. تحدث بواقعية عن بقاء القوات الأميركية في العراق، معتبرًا أن وجودها لا يُعد ضعفًا أو خضوعًا، بل مصلحة وطنية لمنع انزلاق البلاد نحو الفوضى مجددًا. وأكد أن القبول بهذا الوجود لم يكن خوفًا، بل إدراكًا لضرورة حماية الاستقرار ومنع عودة البربرية، في إشارة إلى سنوات الإرهاب والدمار التي عصفت بالعراق والمنطقة.

في المقابلة، برزت أيضًا شخصية القائد المؤمن بمصيره ومصير شعبه. بارزاني تحدث بثقة القائد الذي يعرف أن الكوردي لا يركع إلا لله، وأن الإرادة الكوردية كانت وما زالت السند الحقيقي لكل مشروع وطني. وعندما تطرق إلى التحديات الأمنية والسياسية، قالها بوضوح: “نحن نعتمد على الله أولًا، وعلى إرادة شعبنا وسواعد الپێشمەرگە  ثانيًا.” كلمات بدت بسيطة في ظاهرها، لكنها تحمل رسائل عميقة: فالقوة ليست في التهديد، بل في الإيمان بالحق والقدرة على الدفاع عنه إذا فُرضت المواجهة.

أما عن ملف الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان، فقد تعامل الرئيس معه بذكاء دبلوماسي لافت، لكنه وضعها في سياقها التاريخي والسياسي، مؤكدًا أن ما جرى في عام الاستفتاء لم يكن تحديًا لأحد، بل تأكيدًا على حق تقرير المصير الذي تكفله الشرائع الدولية. ورغم ما واجهه الإقليم من ضغوطات وعقوبات آنذاك، فإن بارزاني ظل ثابتًا على موقفه، متجنبًا في الوقت ذاته أي تصعيد لفظي أو سياسي قد يُفهم على أنه عودة إلى مربع الخلاف.

في تحليله للمرحلة المقبلة، بدا واضحًا أن بارزاني يدرك حجم التحديات أمام العملية الانتخابية وما بعدها. لكنه، في الوقت ذاته، يرى أن هناك بوادر إيجابية من بعض القوى العربية والسياسية في بغداد، التي باتت تدرك أن استمرار إدارة البلاد بالعقلية القديمة لم يعد ممكنًا. “إذا جنحوا للسلم فنحن لها، وإن تنصلوا عن الاتفاقات، فلكل حادث حديث.” بهذه الجملة، وضع الرئيس معادلة دقيقة بين الانفتاح والحزم، بين السلام والكرامة، بين التفاهم والاحترام المتبادل.

من وجهة نظر تحليلية، يمكن القول إن المقابلة كانت أشبه برسالة مفتوحة إلى الداخل والخارج معًا. داخليًا، أراد بارزاني أن يطمئن شعبه بأن القيادة الكوردية لا تزال متمسكة بالثوابت، وأنها لن تفرّط بحقوقها الدستورية. وخارجيًا، وجّه رسالة بأن الكورد ليسوا دعاة انفصال أو تصعيد، بل شركاء حقيقيون في بناء دولة تحترم التعدد والتنوع. لكن هذه الشراكة، كما شدد، لا يمكن أن تكون قائمة على المجاملة أو التنازلات المجانية، بل على الاحترام المتبادل والالتزام العملي.

كذلك، حملت المقابلة بعدًا رمزيًا مهمًا؛ فهي لم تكن فقط عرضًا للمواقف، بل تأكيدًا على أن القيادة السياسية الكوردية ما زالت تمتلك الكلمة الفصل حين يتعلق الأمر بمستقبل العراق كدولة اتحادية. فالرئيس بارزاني لم يتحدث عن الماضي إلا بقدر ما يخدم الحاضر، ولم يفتح ملفات الخلاف إلا ليذكّر بأن الحل لا يكون بالتناسي، بل بالمواجهة الصريحة المسؤولة. ومن هنا جاءت صراحته المعهودة التي تمزج بين الدبلوماسية والحزم، بين التاريخ والنظر إلى المستقبل.

في نهاية المقابلة، بدا الرئيس كما هو دائمًا: واثقًا، متزنًا، متفائلًا رغم الجراح. تحدث عن “الكوردايێتی” – الهوية الكوردية الجامعة – باعتبارها ليست شعارًا، بل مشروع حياة، يستمد قوته من التاريخ ويستشرف المستقبل بواقعية وأمل. لم يوجّه تهديدًا، بل دعوة صادقة إلى السلام. سلام لا يقوم على ضعف أو تنازل، بل على العدالة والدستور والتفاهم بين الشركاء لا الأسياد والتابعين.

وإذا كان البعض قد قرأ في المقابلة نبرة تحدٍ، فإن القراءة الأعمق تكشف أنها كانت نبرة ثقة. فالرئيس الذي خاض معارك السياسة والحرب يدرك أن العراق أمام مفترق طرق: إما العودة إلى ثقافة الإقصاء التي ولّدت الأزمات، أو الانطلاق نحو شراكة حقيقية تُنهي منطق المركزية والدكتاتورية. ولهذا، فإن حديثه لم يكن خطابًا انتخابيًا، بل خارطة طريق لما يجب أن تكون عليه الدولة بعد الانتخابات.

في كل جملة قالها، وفي كل إشارة مرّرها، كان واضحًا أن مسعود بارزاني لا يتحدث عن “حقوق الكورد ” فقط، بل عن “حقوق العراق” في أن يكون دولة مواطنة لا مزرعة أحزاب. وكأن لسان حاله يقول: إذا أردتم سلامًا دائمًا، فابدؤوا بالاعتراف بالآخر، لا برفضه. فالثقافة التي ترفض الآخر ترفض نفسها في النهاية، أما القبول المتبادل، فهو أساس البقاء والكرامة.

وبين أنا المحلل وهو القائد، لا يسعنا إلا أن نقول: بارزاني تحدث كما يفعل القادة الحقيقيون؛ بهدوء يُخفي وراءه صلابة الموقف، وبصراحة لا تخشى العواقب. فحين يتكلم، تتبدّل موازين الخطاب، وتُعاد قراءة المشهد. إنه الرجل الذي يعرف متى يصمت، ومتى يتكلم، ومتى يحوّل الكلمة إلى قرار… قرار قد يُغيّر وجه المرحلة المقبلة بأكملها.