بين التكوين والتفكك ومسؤولية التاريخ: قراءة في مشروع مسرور بارزاني
يقف الواقع السياسي الكوردي اليوم على عتبة مرحلة دقيقة يمكن أن تحدد شكل المستقبل القريب والبعيد معًا؛ فإمّا أن تتجه الحركة الوطنية الكوردية نحو تثبيت كيان سياسي واضح المعالم، أو أن تبقى أسيرة دوائر الخلاف الداخلي التي تتكرر كلما اقترب الحلم من أن يصبح حقيقة. وفي هذه اللحظة، تعود الأسئلة الكبرى إلى الواجهة: من يملك القدرة على جمع الصف؟ ومن يتحمل مسؤولية القرار التاريخي؟ وما الثمن الذي قد يترتب على غيابه؟
لقد أثبتت تجارب الشعوب أن الدولة لا تُبنى من تعددية غير منسجمة، بل من إرادة مركزية قادرة على تحويل الاختلاف إلى قوة لا إلى انقسام. وإيطاليا لم تتوحد إلا حين وضع قادتها مصلحة الدولة فوق التنافس المحلي، وألمانيا لم تنهض إلا عندما أدرك بسمارك أن تعدد الولاءات يبدد الفكرة الكبرى إذا لم تضبطها قيادة واحدة. وفي هذا السياق، عبّر ميكافيلي في كتابه الأمير عن حقيقة لا يزال الزمن يؤكدها: المرحلة التي تُؤسس فيها الدول تحتاج إلى حزم يتجاوز منطق الترضيات، لأن الرحمة الكبرى تأتي بعد تثبيت الكيان لا أثناء تشكّله.
ضمن هذا الإطار يمكن فهم المشروع السياسي الذي يعمل عليه مسرور بارزاني. فالمسألة لا تتعلق برؤية حزبية أو منافسة ظرفية، بل بمحاولة تثبيت مركز قرار كوردي يمنع تشتت الإرادة السياسية. إن التعدد الحزبي بحد ذاته ليس مشكلة، بل هو جزء من الحيوية السياسية لأي مجتمع، لكن المشكلة تبدأ حين يصبح التنافس وسيلة لإضعاف البنية القومية بدل تقويتها. وهنا تظهر أهمية مشروع التوحيد لا بوصفه خيارًا تنظيميًا، بل ضمانة لوجود سياسي مستقر.
إن الاتهامات التي تُوجَّه لهذا المشروع تحت عنوان “الدكتاتورية” تُفهم فقط عندما يُنظر إلى السياسة كميدان صراع بين أشخاص أو نفوذ، لكنها تفقد معناها عندما ننظر إليها من زاوية بناء الدولة. فالدكتاتورية هي حين تُستخدم السلطة لخدمة الفرد، أما حين يُستخدم الحزم لحماية الكيان من التفتت، فهو ممارسة ضرورية في مرحلة التأسيس. وكما يشير ميكافيلي، فإن القائد الذي يتردد في لحظة البناء الأولى، يفتح الطريق لفوضى لا يمكن السيطرة عليها لاحقًا.
وفي المقابل، شهدت الساحة الكوردية في الآونة الأخيرة محاولات لتوظيف التنافس الداخلي عبر الاستعانة بقوى سياسية لا تنتمي إلى المشروع القومي، في مسعى لإضعاف الشريك لا لتقوية الصف. مثل هذه التحركات تكشف منطقًا خطيرًا يقوم على معادلة: “إذا لم أحقق المكسب، فلن يحققه أحد”، وهي معادلة لا تصنع دولة ولا تحفظ قضية. فالخلاف السياسي مشروع، أما تحويله إلى انقسام بنيوي فهو تهديد مباشر لفكرة الدولة نفسها.
تأتي الانتخابات الحالية كاختبار واضح لهذا الوعي. فهي ليست مجرد عملية اقتراع، بل محطة لإعادة صياغة شكل العلاقة بين القوى السياسية ومفهوم المصلحة القومية. فإذا تحولت الانتخابات إلى مواجهة داخلية تُضعف الصف، فإنها ستكون خطوة نحو التفكك. أما إذا كانت وسيلة لإعادة إنتاج الثقة، فإنها قد تفتح الطريق نحو لحظة تأسيس جديدة.
إنّ التاريخ لا ينتظر طويلًا. وكوردستان اليوم أمام فرصة قد لا تتكرر بسهولة: إمّا أن تنتقل من فكرة الأمة إلى واقع الدولة، أو تبقى في حدود النصوص والذاكرة. والمشروع الذي يعمل على توحيد الصف لا يحمل ضمانًا بانتصار سريع، لكنه يحمل شرطًا واحدًا لا غنى عنه: أن يكون للكورد صوت واحد عندما يتعلق الأمر بمصيرهم.
هذه هي مسؤولية التاريخ، وليست مسؤولية فرد أو حزب.
والسؤال اليوم ليس: من يربح ومن يخسر؟
بل: هل تريد كوردستان أن تحقق كدولة، أم تبقى مشروعاً مؤجلة في الذاكرة؟.