الوجوه تتبدل والمشكلة باقية

الوجوه تتبدل والمشكلة باقية
الوجوه تتبدل والمشكلة باقية

شهد العراق بالأمس محطةً جديدة في مسيرة انتخاباته البرلمانية، حيث توجّه المواطنون إلى صناديق الاقتراع بأملٍ متجدد في أن تحمل هذه الدورة وجوهاً قادرة على التغيير، بعد أكثر من عقدين من التجربة السياسية المليئة بالتحديات.
ومع كل انتخابات، تتجدد الأسئلة ذاتها: هل ستتغير الوجوه؟ هل سيتبدل النهج؟ وهل سيشهد العراق أخيراً انتقالاً من إدارة الأزمات إلى صناعة الدولة؟

إن ما دفعني إلى كتابة هذه السطور هو قناعتي بأن التغيير الحقيقي لا يأتي من تبدل الأشخاص فحسب، بل من تبدل العقلية التي تُدار بها الدولة. لقد جرّب العراقيون كل ألوان الوعود، لكنهم ما زالوا ينتظرون من يضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، ومن يؤمن أن بناء الدولة يبدأ من الإيمان بالشراكة لا بالمحاصصة.

على مدى أكثر من اثنين وعشرين عاماً، ظل العراق يدور في حلقة مفرغة من الشعارات المكرّرة، والوجوه ذاتها التي تتبدل أسماؤها دون أن تتغير أساليبها في الحكم. ولم يكن الخلل في قلة الموارد أو الكفاءات، بل في غياب الرؤية الوطنية الجامعة، وفي تغليب الولاءات على الكفاءة.

لقد تأسس النظام السياسي بعد عام 2003 على قاعدة تقاسم النفوذ لا بناء المؤسسات، فاختُزل مفهوم الشراكة في اقتسام المناصب، وغاب مشروع الدولة العصرية العادلة.

الدستور العراقى هي وثيقة التوازن التي حُرّفت عن مسارها. حين أُقِرّ الدستور العراقي عام 2005، كان يُفترض أن يكون عقداً وطنياً يؤسس لعراقٍ جديد يقوم على مبادئ الشراكة والتوافق والتوازن بين مكوناته، لا على المحاصصة والانقسام. لقد نصّ الدستور بوضوح على المساواة في الحقوق والواجبات، وعلى نظامٍ اتحاديٍّ يوزع الصلاحيات والثروات بعدالة بين المركز والإقليم والمحافظات.

لكن الواقع السياسي شوّه تلك المبادئ؛ فحُوِّل “التوافق” إلى تقاسمٍ للسلطة، و”التوازن” إلى توازنٍ في النفوذ لا في الحقوق، وغابت روح الشراكة الحقيقية التي كانت الأساس في بناء الدولة الاتحادية الحديثة.

أم عن اقتصاد الريع وإفلاس الرؤية نقول ان الاقتصاد العراقي بقي رهينة النفط، المورد الوحيد للحياة والموت معاً. 
لم تُبنَ صناعة وطنية ولا زراعة مستدامة، وتحول العراق إلى سوقٍ استهلاكي يعتمد على الاستيراد في كل شيء. ومع كل تراجعٍ في أسعار النفط، تدخل البلاد في أزمةٍ مالية جديدة تُدفع أثمانها من حياة المواطنين لا من جيوب الفاسدين.

أما التعليم، فقد تراجع بشكلٍ مقلق، وأصبحت مدارسنا وجامعاتنا تعاني ضعف البنى التحتية والمناهج والكوادر، فخرجت أجيال بلا أفق ولا أمل.

وأما الخدمات والفساد فهي حكاية اخرى لا تنتهي حيث لم يُؤمَّن المواطن بالكهرباء ولا بالماء ولا بالصحة، فيما تستمر مليارات الدولارات في الهدر والمشاريع الوهمية. 

أما الفساد فقد صار مؤسسة تحمي نفسها بالقوانين والمناصب، حتى غدت المحاسبة استثناءً لا قاعدة.

 

تجربة إقليم كوردستان نموذج يُقاوم المركزية

وسط هذا المشهد، تبرز تجربة إقليم كوردستان كنموذجٍ إداري وتنموي مقاوما المركزية حيث حاول رغم كل العراقيل أن يقدم مثالاً آخر للحكم والإدارة. فقد استطاع الإقليم خلال العقدين الماضيين تحقيق تقدم ملحوظ في قطاعات الإعمار، والكهرباء، والاستثمار، والتعليم الجامعي، وبناء بيئة أكثر استقراراً سياسياً واقتصادياً.

لكن بدلاً من أن تتعامل الحكومة الاتحادية مع هذه التجربة كأنموذجٍ ناجح يستحق الدعم والتوسيع، واجهت الإقليم بسياساتٍ مالية عقابية، أبرزها ملف رواتب موظفي الإقليم، الذي تحوّل إلى أداة ضغطٍ سياسي تخالف روح الدستور ومبدأ العدالة. فبدل أن تُصرف الرواتب باعتبارها حقاً دستورياً للمواطنين، جرى استخدامها كورقة ضغط من المركز على الإقليم، مما أضعف الثقة وعمّق الانقسام.

ورغم ذلك، أثبت الإقليم صلابته الإدارية والاقتصادية، واستمر في تقديم الخدمات لشعبه بما يتوافر لديه من إمكانات، محافظاً على قدرٍ من الأمن والاستقرار جعله محط أنظار الداخل والخارج.

العراق اليوم بلد غنيّ بثرواته، فقير في إدارته، قويّ بتاريخه، ضعيف بحاضره، لأن القيادات التي تعاقبت لم تقرأ التاريخ لتبني المستقبل. تتبدل الحكومات، لكن الوجوه ذاتها تبقى، والأزمات تتكرر.

وفي الختام أقول إن انتخابات الأمس لن تكون محطة تغيير حقيقية ما لم يتحرر القرار الوطني من أسر المحاصصة، وما لم يُطبّق الدستور كما كُتب لا كما يُفسَّر لخدمة الأحزاب.
فالشراكة التي نصّ عليها الدستور ليست منّة سياسية، بل التزامٌ وطنيٌّ ودستوريٌّ تجاه كل أبناء العراق، من زاخو إلى البصرة.
والوطن لن ينهض إلا حين تُدار الدولة بالعقل والضمير لا بالمحسوبية والولاء.