د. ابراهيم احمد سمو
كاتب كوردي
خطاب الرئيس مسعود البارزاني في (ميبس دهوك).. رؤية هادئة لمسار العراق وتوازنات الإقليم ومكانة الكورد في المنطقة
خطاب الرئيس مسعود بارزاني في (ميبس دهوك ) اتسم بالهدوء والواقعية السياسية، قدّم الرئيس رؤية شاملة لما يجري في العراق والمنطقة والعالم، مستعرضًا ملامح المرحلة المقبلة، ومتوقفًا عند أسس العلاقة بين إقليم كوردستان والحكومة الفيدرالية؛ علاقة شدّد على ضرورة بنائها وفق الدستور، والشراكة الحقيقية، واحترام الاستحقاقات الانتخابية، بما يحفظ استقرار البلاد ومستقبلها السياسي.
منذ اللحظات الأولى للخطاب، بدا واضحًا أن الرئيس البارزاني أراد وضع نقاط مركّزة على مسار التطورات الأخيرة، موجّهًا رسائل دقيقة إلى القوى السياسية العراقية، وإلى الحكومة الفيدرالية المقبلة، وإلى شركاء العملية السياسية جميعًا. وفي إطار عرضه المتوازن، تناول الرئيس التحديات التي يواجهها الإقليم والعراق والمنطقة، والفرص التي يمكن البناء عليها إذا ما استقرت المعادلة السياسية واعتمد الجميع المرجعية الدستورية.
1- ما قبل الانتخابات ليس كما بعدها… واحترام الاستحقاقات أساس الاستقرار
أشار الرئيس البارزاني إلى حقيقة راسخة في الأنظمة الديمقراطية:
المرحلة التي تسبق الانتخابات تختلف تمامًا عمّا يليها. فبعد إعلان النتائج، يجب أن تخضع المواقف السياسية لمنطق الاستحقاق الانتخابي، وأن تتشكل الحكومات وفق إرادة الناخبين، لا وفق حسابات ضيقة أو تفاهمات ظرفية.
وأكد أن التوازن السياسي في العراق لا يمكن أن يقوم إلا عبر الالتزام بهذا المبدأ، وأن أي تجاهل لإرادة الناخبين يقود إلى أزمات متكررة، تعرقل تشكيل الحكومات وتربك عملها.
2- علاقة الإقليم بالحكومة الفيدرالية… شراكة لا تبعية
ركّز البارزاني على طبيعة العلاقة بين إقليم كوردستان والحكومة الفيدرالية، مبينًا أن هذه العلاقة يجب أن تقوم على:
• الشراكة الحقيقية
• التوازن السياسي
• التوافق على إدارة الدولة
• الاحتكام إلى الدستور
وأشار إلى أن هذه الأسس ليست مطالب جديدة، بل مبادئ أقرّها الدستور العراقي الدائم الذي صوّت عليه العراقيون جميعًا، والذي وصفه الرئيس بأنه (إنجاز وطني كان من الممكن أن يقود البلاد إلى الاستقرار لو تم تطبيقه بنزاهة)
3- الدستور هو الفيصل… وحلّ القضايا العالقة يبدأ بتطبيقه
أشاد الرئيس بالدستور العراقي الذي شارك الكورد بفعالية في صياغته بعد سقوط النظام في 2003، معتبرًا أن الالتزام بمضامينه هو السبيل الحقيقي لحل جميع الإشكالات بين بغداد وأربيل، وفي مقدمتها:
• قضية المناطق المتنازع عليها وفق المادة 140
•ملف النفط والغاز وتوزيع الثروات
•آليات إدارة الشراكة السياسية
•تثبيت الحقوق الدستورية لإقليم كوردستان
ونوّه إلى أن هذه القضايا ليست خلافات سياسية فحسب، بل هي التزامات دستورية واضحة، ينبغي للحكومة الفيدرالية المقبلة أن تتعامل معها باعتبارها استحقاقات قانونية وليست خيارات تفاوضية.
4- قراءة تاريخية لتأسيس الدولة العراقية
استعرض الرئيس البارزاني جانبًا من تاريخ العراق منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى، وما رافق تلك الحقبة من معاهدات دولية جلبت الكثير من الويلات والمآسي لشعوب المنطقة، ومن ضمنهم الشعب الكوردي الذي وجد نفسه ممزقًا بين حدود جديدة رسمتها القوى الدولية دون مراعاة للواقع القومي والاجتماعي.
وتوقف عند ثورة 1958 بوصفها لحظة مهمة في مسار العراق الحديث، لكنها لم تؤسس – رغم التطلعات – لعقد وطني متوازن يضمن الحقوق العادلة لجميع المكونات.
ومن النقاط التي أبرزها الرئيس أن الشعبين العربي والكوردي استطاعا، رغم كل ما مرّ، أن يرسيا قاعدة (الشراكة والأخوة) التي تُوّجت ولاسيما بعد 2003 بدستور يؤكد هذا المبدأ ويفتح الباب لبناء دولة اتحادية تحترم الجميع.
5- من المفاوضات إلى الدستور… مسار طويل نحو الشراكة
ذكّر البارزاني بمجموعة من المحطات التاريخية التي خاضها الكورد في سبيل الوصول إلى صيغة دستورية عادلة، مشيرًا إلى سلسلة المفاوضات التي جرت خلال العقود الأخيرة، خصوصًا قبل وحتى انتفاضة 1991، وما تلا ذلك من جهود سياسية اتسمت بالمرونة والواقعية.
وتوقف عند مرحلة 2003 وسقوط النظام السابق، حيث دخل الكورد شريكًا أساسيًا في بناء الدولة الجديدة، وأسهموا في صياغة دستور كان من شأنه – لو تم تطبيقه – أن يحقق الاستقرار للعراق.
6- دعوة لتصحيح المسار السياسي… والعودة إلى روح الشراكة
في الجزء الأهم من خطابه، دعا الرئيس البارزاني إلى:
•تصحيح مسار العملية السياسية
•اعتماد الدستور كمرجعية للحلول
•إنهاء سياسات الإقصاء والتهميش
•الابتعاد عن المعادلات التي تفكك الدولة لصالح (دويلات) داخلها
•تشكيل الحكومة الفيدرالية وحكومة الإقليم دون تأخير
وأكد أن العراق بحاجة إلى خطاب جامع، وأن تعزيز الأخوة العربية–الكوردية هو أساس الاستقرار الداخلي. فإذا طُبّق الدستور، يقول الرئيس، سيستقر البلد وتُغلق أبواب الأزمات .
7- سياسة خارجية متوازنة… والدولة ليست طرفًا مع هذا أو ذاك
على المستوى الإقليمي والدولي، دعا البارزاني إلى أن يظل العراق دولة مستقلة القرار، بعيدة عن الاستقطابات، وألّا يكون طرفًا في محاور متصارعة أو حروب غيره. فالمصلحة الوطنية تقتضي علاقات متوازنة مع الجميع، دون الانجرار إلى صراعات لا تخدم الشعب العراقي.
8- قراءة في التحولات العالمية والإقليمية
تطرّق الرئيس إلى التحولات المتسارعة في المنطقة والعالم، مشيرًا إلى أن الشرق الأوسط يعيش مرحلة إعادة تشكيل توازناته السياسية والأمنية، وأن فهم هذه التحولات ضروري لصياغة رؤية واقعية تحمي العراق وشعوبه.
وشدد على أن أي تغيّر في موازين القوى يجب أن يُقرأ بحذر، وأن العراق بحاجة إلى سياسة داخلية مستقرة كي يتمكن من مواكبتها والاستفادة منها بدل أن يكون ساحة صراع.
9-تقدير لعملية السلام في تركيا… ورسالة إلى سوريا
أبدى الرئيس البارزاني تقديره للخطوات المتعلقة بعملية السلام في تركيا، معتبرًا أنها فرصة تاريخية لإنهاء صراع طويل ولإرساء الاستقرار في المنطقة بأسرها.
وفيما يخص سوريا، دعا إلى:
•الحل السلمي وفق المعطيات السياسية القائمة
•احترام حقوق الشعب الكوردي هناك
•تجنّب تحويل الخلافات بين الحكومات إلى خصومة بين الشعوب
وذكّر بأن الشعب الكوردي، أينما كان، يستحق أن يعيش حياة كريمة كبقية شعوب المنطقة.
وقد لاقت هذه الرسائل تصفيقًا حارًا من الحضور، لما حملته من وضوح ورؤية إنسانية وسياسية متوازنة، بعيدة عن روح التحريض والخطاب التصادمي.
10. نحو مستقبل أكثر استقرارًا….
11. لم يغفل خطر الإرهاب والتطرف القومي وعودة داعش، المستغل لأي تفكك سياسي واجتماعي، كما تناول شبكات المخدرات وتمويلها العلني والمتستر داخل البلاد، بوصفها محورًا مهمًا في خطابه
12- اختتم الرئيس خطابه بتأكيد أن المرحلة المقبلة تتطلب حكمة وهدوءًا وقرارات سريعة في تشكيل الحكومات، وإرادة سياسية قوية للعودة إلى الدستور، والانطلاق نحو بناء دولة مؤسسات تحترم التنوع وتُعزز المواطنة.
وأشار إلى أن كوردستان كانت وستبقى عنصر استقرار، وأنها ماضية في حماية حقوق شعبها، وفي نفس الوقت ملتزمة بدعم استقرار العراق ووحدته وفق مبادئ الشراكة التي أقرّها الدستور.
خلاصة
جاء خطاب مسعود البارزاني متوازنًا، واقعيًّا، ومشبعًا بروح المسؤولية السياسية، جامعًا بين قراءة تاريخية دقيقة ودعوة واضحة نحو المستقبل. رسائله كانت مركّزة:
الدستور هو الحل، الشراكة هي الأساس، والاستقرار يحتاج إلى احترام إرادة الشعوب والابتعاد عن سياسة المحاور.
بهذه الرؤية، وضع البارزاني خطوطًا عريضة لمسار يمكن أن يعيد الثقة بين بغداد وأربيل، ويمنح العراق فرصة حقيقية للعودة إلى الاستقرار والتعايش.