من سانت ليغو إلى تحالف الإطار: كيف تُستخدم القوانين والسياسة لإضعاف الكورد والسنّة؟

من سانت ليغو إلى تحالف الإطار: كيف تُستخدم القوانين والسياسة لإضعاف الكورد والسنّة؟
من سانت ليغو إلى تحالف الإطار: كيف تُستخدم القوانين والسياسة لإضعاف الكورد والسنّة؟

لم يكن نظام سانت ليغو 1.0 خطوة انتخابية عابرة أو تعديلًا تقنيًا بريئًا، بل كان قرارًا سياسيًا خالصًا يهدف إلى إعادة ترتيب ميزان القوة داخل العراق بما يضمن بقاء القرار التنفيذي تحت سيطرة التحالف الشيعي الموحّد. فالقانون الذي رُوّج له على أنه “يعزز التمثيل العادل” صُمّم عمليًا لغاية واضحة: إضعاف القوى غير الشيعية، وفي مقدمتها الكورد والسنّة، وترسيخ نفوذ الإطار التنسيقي داخل البرلمان. وهذا التوجه لم يأتِ صدفة، بل كان جزءًا من تفكير استراتيجي تقوده العقول المرتبطة بإيران، الساعية دائمًا إلى بناء مركز شيعي قوي مقابل ساحة سنية وكوردية مشتتة، بحيث تبقى السلطة التنفيذية في يد كتلة واحدة لا ينافسها أحد.

وقد جاءت نتائج الانتخابات الأخيرة لتكشف بوضوح أثر هذا القانون؛ فالحزب الديمقراطي الكوردستاني، رغم فوزه الكاسح الذي تجاوز المليون صوت وهو ما كان سيمنحه ما لا يقل عن (60) مقعدًا لو جرت الانتخابات بقانون طبيعي ومنصف، وجد نفسه محجَّمًا بشكل كبير نتيجة آلية توزيع المقاعد في هذا النظام، بينما استفادت القوائم الصغيرة من تشتت الأصوات الكوردية والسنّية. هذا التحجيم لم يكن مصادفة، بل كان متناغمًا مع مخاوف بعض القوى الشيعية من صعود كتلة كوردية قوية بقيادة  الحزب الديمقراطي الكوردستاني، فتم اختيار النظام الانتخابي بما يضمن إضعاف الأطراف وتحصين المركز السياسي الموحّد.للشيعة.

ولأن القوى الشيعية أدركت مبكرًا  أن وحدة قرارها هي مفتاح استمرار نفوذها، فقد دخلت الانتخابات تحت سقف واحد أو ضمن تفاهمات متينة تمنع تشتت أصوات جمهورها. في المقابل، خاض الكورد والسنّة الانتخابات وهم منقسمون، الأمر الذي ضاعف تأثير سانت ليغو عليهم؛ إذ يرفع النظام تمثيل القوائم الصغيرة ويخفض تمثيل القوى الكبرى عندما تكون الساحة غير موحدة. وهكذا ظهر القانون وكأنه يستهدف الحزب الديمقراطي الكوردستاني وتقدم والقوى السنية، بينما عزّز قوة الإطار التنسيقي الذي حافظ على كتلة ثابتة مكّنته من التحكم بتشكيل الكتلة الأكبر والحكومة المقبلة.

وجاء انضمام تحالف رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى البيت الشيعي الموحّد ليُكمل دائرة القوة. فالسوداني، الذي ظهر سابقًا كخيار توافقي، أصبح جزءًا من منظومة تبني “المركز السياسي الشيعي” الذي يمسك برئاسة الوزراء والحقائب السيادية ومفاتيح إدارة الدولة. في هذا المشهد، لم يعد للكورد أو السنّة إمكانية حقيقية لصناعة توازن سياسي، لأن التحالف الشيعي تحوّل إلى مركز ثقل واحد مقابل أطراف مشرذمة لا تمتلك أدوات مشتركة للموازنة. أما نظام سانت ليغو، فقد أدّى دوره في تفتيت أصوات الأطراف وإضعاف تمثيلها البرلماني، دون أن يمس وحدة الإطار أو قدرته على التحكم بمسار تشكيل الحكومة.

الجانب الأخطر في هذا المشهد هو الطريقة التي استُغلت فيها الانقسامات داخل الساحة الكوردية نفسها. فالصراع السياسي بين الأحزاب الكوردية، ودخول بعض القوى المعارضة في لعبة بغداد بغاية إضعاف الحزب الديمقراطي الكوردستاني، منح المركز الاتحادي فرصة ذهبية لإدارة مفاوضاته مع الإقليم من دون أن يلتزم بشروط واضحة. والدليل الأبرز كان أزمة الرواتب، التي تحوّلت إلى نموذج لاستخدام الأدوات الدستورية والمالية للضغط على الإقليم بأكمله، مستفيدة من غياب موقف كوردي موحّد، ووجود أطراف تظن أن التقارب مع بغداد سيضعف خصومها المحليين، بينما الحقيقة أن هذا التقارب لم يفعل سوى إضعاف الإقليم نفسه وتقليص قدرته على حماية حقوقه الدستورية.

ورغم هذه المعادلة المعقدة، يبقى الحزب الديمقراطي الكوردستاني الطرف الأكثر وعيًا بخطورة المرحلة. فهو يدرك أن بغداد اليوم تعمل وفق ميزان سياسي جديد، وأن أي مشاركة بلا تفاهمات مكتوبة تعني ترك الملفات الأساسية  من الرواتب إلى النفط، ومن البيشمركة إلى المادة 140  رهينة للظروف ولتقلبات اللحظة السياسية. لهذا يصر الحزب الديمقراطي على أن يسبق أي اتفاق مع بغداد تفاهم واضح وملزم، لأن التجارب السابقة أثبتت أن الوعود الشفوية تتبدد بعد اكتمال تشكيل الحكومة.

لقد أصبح توحيد البيت الكوردي اليوم ضرورة وجودية، فالإقليم لا يحتاج إلى رفع سقف المطالب بقدر حاجته إلى رؤية موحّدة تحمي مكتسباته الدستورية وتمنع استغلال الانقسام الداخلي. فالإطار التنسيقي لا يستهدف حزبًا بعينه، بل يستفيد من غياب التوافق الكوردي والسني لإبقاء مركز السلطة قويًا وأطرافه ضعيفة. وفي هذا المشهد، يبرز الحزب الديمقراطي الكوردستاني كقوة ثابتة وراسخة؛ فالحزب الذي نال مليون صوت هو الممثل الشرعي لإرادة شعب كوردستان، والقادر على التفاوض من موقع قوة يستند إلى شرعية جماهيرية لا إلى مساومات وقتية. إن الديمقراطي، بخبرته ورصيده الشعبي، لا يطلب الصدام بل الاتفاقات الواضحة التي تحمي الإقليم وتضمن استمرار شراكته داخل العراق، ولهذا يعود إليه دوره الطبيعي في قيادة حماية الإقليم في أخطر مرحلة منذ عام 2003.