اختبار مصداقيّة كوردستان في زمن الهجمات

مدينة أربيل عاصمة إقليم كوردستان
مدينة أربيل عاصمة إقليم كوردستان

في 26–27 تشرين الثاني 2025، توقفت الكهرباء عن آلاف المنازل في هولير والسليمانية. الطائرات المسيّرة قصفت حقول الغاز، وأعاد هذا الهجوم إلى الواجهة سؤالاً حرجاً: هل يمكن لكردستان أن تتحرر من اعتمادها على النفط والغاز؟

وهو ما يؤكد هشاشة الاعتماد على مصدر دخل واحد لكوردستان العراق؛ توقف ضخ الغاز أدى إلى اضطراب في عمل المستشفيات والمدارس، وشهدت الشوارع انقطاعاً متكرراً للكهرباء، بينما تكافح المصانع للحفاظ على الإنتاج. هذه التطورات ليست مجرد حادثة معزولة؛ بل تجديد لهجمات سابقة على حقول نفطية وغازية ضمن الإقليم.

هل ما بعد النفط ضرورة أولى الأن؟

الاعتماد الكلي أو شبه الكامل على النفط والغاز، يجعل من الإقليم عرضة للصدمات -والهجمات الأمنية، وتأثيرات تقلبات الأسواق. ماعدا عن الضغط السياسي من بغداد وجهات خارجية وداخل الإقليم نفسه.

الغرض والهدف من هذه الهجمات، جعل انقطاع الكهرباء والغاز ذا تأثير مباشر على حياة المواطنين، ويعرض الخدمات العامة والقطاع الخاص إلى انهيار سريع، على أمل زرع الشقاق بين المجتمع الكوردستاني والحكومة في الإقليم، خاصة مع بروز احتمال إعادة الانتخابات النيابية في الإقليم، أو تشكيل الحكومة بعيداً عن ضغوطات الأطراف الكوردستانية.

وفقاً لذلك، أعتقد أن الاستثمار في قطاعات الزراعة، والطاقة المتجددة، والصناعة الخفيفة، البنية التحتية، ليست رفاهية، بل ضمان لاستقرار مؤسسي. وهذا التنوع هو ما يُمثل عمق رؤية رئيس الوزراء السيد "مسرور البارزاني" التي طالما أكدت على "اقتصاد قادر على الصمود أمام الصدمات" كضرورة وجودية وليس رفاهية أو شعار سياسي، بل مسار استراتيجي حتمي.

سيناريوهين خلال عامين

الأول: تحول عميق ونجاح اقتصادي مرن

يبدو أنه خلال الأعوام الماضية، ومع كثافة الضغوط والهجمات والحصار على كوردستان. دائماً ما كانت تستثمر الصدمة لتسريع خطة حماية الطاقة: خاصة في مجال أنظمة دفاع لحماية الحقول، تأمين منشآت الغاز والنفط، تعزيز التعاون الأمني مع بغداد وشركاء دوليين. وهو ما يدفع بالحكومة لإطلاق مشاريع الطاقة المتجددة (شمس- رياح) وربطها بإنتاج كهرباء مستقلاً عن الغاز، ومرافق صناعية خفيفةـ زراعات حديثة، تصدير المنتجات المحلية إلى الخارج، وهو ما حصل مثل الرمان والبطاطا وغيرها، وصناعات تحويلية.

ويمكن أن يؤدي ذلك لجذب المزيد من الاستثمارات الخارجية في مجالات غير نفطة، وتنمية صناعات محلية، وفتح سوق عمل للشباب، والحد من البطالة والهجرة، وبالنتيجة تعززت الصورة السياسية للإقليم. فكوردستان أصبحت ليست مجرد مصدر للنفط، بل منطقة تنمية، أمن، استقرار، وتنوع اقتصادي. ما يمنحها ورقة تفاوض أقوى مع بغداد وشركاء خارجيين.

والنتائج المتوقعة لهذا السيناريو هو: المزيد من استقرار الخدمات الأساسية من "كهرباء، ماء، بنية تحتية" وتحفيز الاقتصاد المحلي، وثقة مستدامة من المجتمع، ومرونة سياسية واقتصادية تجعل الإقليم أقل رهبة من أيّ هجوم أو ضغط.

السيناريو الثاني: استمرار اعتماد هش على النفط\الغاز

أما في حالة عدم نجاح حماية الحقول أو تكررت الهجمات، أو انعدام الاستثمارات في التنويع. أعتقد أن الإقليم سيُعاد إلى مربع الاعتماد على النفط/الغاز كمصدر وحيد للدخل. وهو ما سيؤثر بشكل مباشر على مشاريع الطاقة المتجددة أو الصناعة ومنعها من التنفيذ الفعلي، وتعرضها للتأخير، والبيروقراطية، و نقص التمويل. عدا عن العودة إلى الانقطاع المتكرر للكهرباء، وتراجع الخدمات، واستفحال أزمة بطالة. وتعميق الشعور الجمعي بعدم الأمان الاقتصادي، وتقوية ضعف ثقة المواطن بالحكومة، وهو ما تسعى إليه تلك الجهات. واعتقد أن هذا السيناريو سيُفقد كوردستان مصداقيتها داخليًا وخارجيًا، وتصبح عرضة للابتزاز السياسي من بغداد أو جهات خارجية، وتعجز عن جذب استثمارات جديدة. والنتائج المحتملة هي: التراجع الاقتصادي والاجتماعي، وزعزعة الاستقرار الداخلي، وتأزم شرعية الحكومة، وفقدان رهانات التنمية — الأمر الذي قد يعيد الإقليم إلى دائرة أزمات متكررة.

إذا نجحت الحكومة في حماية الحقول واستثمرت الهجمات في مشاريع الطاقة المتجددة، سيشهد الإقليم تحولاً اقتصادياً حقيقياً، وتزيد ثقة المواطن بالحكومة، وتصبح كردستان نموذجاً للتنمية المستدامة. والعامل الأكثر  قوة وفائدة لرئيس وزراء الإقليم إن نجاح مشاريع التنمية والتحول الاقتصادي، سيمنحه ورقة تفاوض قوية مع بغداد والاقليم والمجتمع الدولي، على قاعدة أن كوردستان شريك اقتصادي مستقل إلى حد ما، وليس مجرد منطقة تنتظر حصة أو راتب. 

أما إذا استمر الاعتماد على النفط وحده، فسيستمر الانقطاع الكهربائي وتتعرض الخدمات للشلل، بينما ينمو شعور المواطنين بعدم الأمان والاحباط. وهو صُلب رغبات جهات تسعى لإفشال الحكومة ومساعي رئيسها، والمؤسف إنه ستجعل من خطوات ومشاريع التحول الاقتصادي عاجزة عن الارتقاء والاستمرار، ومن الممكن أن تتحول النفوس الشعبية -خاصة بين الشباب المتطلّع- إلى يائسة ويعتريها الفشل.

الخلاصة: الهجمات ليست مجرد تهديد؛ إنها اختبار لرؤية حكومة كوردستان وقدرتها على تحويل التحديات إلى فرص جدّية. وقد تتحول كل أزمة كهرباء أو هجوم على الطاقة إلى حجر أساس لبناء اقتصاد أكثر تنوعاً وأماناً، ولتعزيز ثقة المواطنين بالمستقبل.

وهذه الجدية تتمحور في أربع محطات أساسية:

1-بناء شبكة حماية متعددة المستويات: ولزاماً بات الإقليم بحاجة إلى منظومة دفاع جوي حول الحقول والمنشآت الحسّاسة، توفير وحدات حماية متخصصة ومستمرة داخل الحقول وخارجها، وبناء شراكات أمنية وتكنولوجية مع شركات دولية تملك خبرة في حماية البنى التحتية للطاقة. وهذه التحصينات ليست لحماية أنابيب النفط فطق، بل لحماية الاستقرار والمعيشة.
2- مشاريع الطاقة البديلة: عبر تسريع وتيرة التنفيذ الصارم، وأنشاء المزيد من محطات طاقة شمسية ورياح تغطي نسبة ملموسة من الطلب على الكهرباء، وتشجيع القطاع الخاص عبر حوافز ضريبية وتمويل ميسّر، وربط الطاقة البديلة بمدن ومناطق محددة كمشاريع نموذجية أولى يمكن تعميمها. والنجاح في هذا المسار سيعني الحصول على كهرباء لن تُعطّلها مسيّرة واحدة.

3-سياسة تنويع اقتصادي تستهدف التوظيف المباشر للشباب، عبر دعم الزراعة بوصفها قطاعاً قابلاً للنمو السريع (الخضروات، الأشجار المثمرة، الدواجن) وتوسيع الصناعات التحويلية المرتبطة بالإنتاج المحلي (أغذية، تعبئة، مواد إنشائية). والتركيز على حاضنات مشاريع للشباب ومشاريع صغيرة مرتبطة بسلاسل التوريد المحلية. فكل وظيفة جديدة تعني مواطناً أقل قابلية للغضب أو الهجرة.

4-تحويل الهجمات من تهديد إلى ذريعة للتقدّم: الخصوم يراهنون على انهيار الثقة. الردّ الأذكى هو فعل العكس، عبر خطاب حكومي يركز على أن الأزمة لحظة لإثبات القدرة لا لتبادل الاتهامات، وبناء تحالف داخلي أوسع حول "اقتصاد ما بعد النفط" بوصفه مشروع دولة لا مشروع حزب، وكل ضربة يمكن أن تصبح حجراً في بناء أكبر… إن أحسن استخدامه.

في الأسابيع المقبلة، سيكتشف المواطنون والمستثمرون على حد سواء، من يؤذي\يدعم القواعد الاجتماعية، الحكومة الراغبة فعلاً على تحقيق رؤيتها، أم الجهات الساعية للتعطيل وكبح عجلة التنمية.