د. دژوار سندي
أكاديمي ومتخصص في القانون
الإرادة التي لا تنكسر.. كوردستان تصنع الأمل من رحم المعاناة
في مسيرة الشعوب العظيمة، توجد لحظات حاسمة تختبر فيها الإرادة البشرية أصعب التحديات، وتثبت فيها روح المقاومة قدرتها على تجاوز المستحيل. وشعب كوردستان، بعزيمته الثابتة، وإصراره القوي، يكتب بحروف من نور واحدة من أروع قصص الصمود في وجه العواصف.
لقد شكل الهجوم الإرهابي الأخير على منشأة الغاز في حقل خور مور محطة جديدة في مسيرة كوردستان الطويلة مع التحديات. لكنه في الحقيقة لم يكن سوى حلقة أخرى في سلسلة طويلة من المحن التي واجهها هذا الشعب العظيم، والذي تعلم من خلال دروس التاريخ القاسية أن البقاء ليس للأقوى، بل للأكثر إرادة وعزيمة.
بين القانون والسياسة.. هوية الفعل ودلالاته
يندرج الاستهداف تحت وصف الجرائم المنظمة ضد المنشآت المدنية الحيوية، وهو فعل يحاول النيل من أمن الطاقة كركيزة للتنمية. ومن هنا، تظهر الحاجة إلى تعزيز الحماية الوطنية وتطويرها، والبحث عن دعم دولي وإقليمي لحفظ هذه المقادر الاستراتيجية.
أما سياسياً، فالهجوم يمثل محاولة لوقف عجلة التقدم التي يعيشها الإقليم في مجال استثمار موارده الطبيعية، والتي من شأنها أن تجعل من كوردستان قطباً اقتصادياً فاعلاً. إلا أن هذه المحاولات تبقى عاجزة أمام إصرار الإرادة الكوردستانية.
التاريخ يشهد.. إرادة صنعت من المحن منحاً
لو تحدثت صفحات التاريخ عن شعب كوردستان، لروت قصة شعب رفض أن يكون ضحية للظروف، واختار بدلاً من ذلك أن يكون صانعاً لمصيره. فمن معاناة القرون الماضية، إلى تحديات الحاضر الراهن، ظل الكوردي يحمل في قلبه إيماناً لا يتزعزع: أن الأزمات لا تدوم، لكن الإرادات الخالدة تبقى.
لقد واجه شعب كوردستان عبر تاريخه الطويل أنواعاً كثيرة من المحن التي كان يمكن أن تدمر أي شعب آخر. من حملات الإبادة المنظمة، إلى سياسات التهميش والإقصاء، مروراً بالحروب المدمرة التي اجتاحت المنطقة. لكن المفارقة العظيمة أن كل محنة من هذه المحن لم تزد هذا الشعب إلا إصراراً، ولم تزده إلا تمسكاً بهويته وكرامته.
لقد تحولت المعاناة إلى مدرسة للصمود، والآلام إلى وقود للإنجاز. فها هو إقليم كوردستان اليوم يقف شامخاً كواحة للاستقرار في محيط مضطرب، وواحة للديمقراطية في منطقة تعاني من الاستبداد، وجزيرة للأمان في محيط من العنف والدمار.
صمود في وجه العواصف.. بطولة تتجدد
عندما استهدفت المنشآت الحيوية في إقليم كوردستان، لم يكن الهدف مجرد منشآت من حديد وإسمنت، بل كان الاستهداف موجهاً إلى إرادة شعب بكامله. لكن الخطة فشلت في حساب ما تحمله القلوب من إيمان، وما تختزنه النفوس من عزيمة.
لقد شهدت الأيام التي تلت الهجوم مشاهد من البطولة الصامتة تجلت في عمال المنشآت وهم يعملون ليل نهار لإعادة الخدمات، وفي المواطنين وهم يتحلون بالصبر والتفهم، وفي القيادات وهم يتحركون بمسؤولية وحكمة. كانت هذه المشاهد خير دليل على أن الإرادة الكوردستانية أقوى من أي اعتداء، وأعظم من أي تخريب.
لقد أثبتت الأزمة مرة أخرى أن شعب كوردستان لم يعتد بعد على حياة الرفاهية والراحة، بل ما زال يحمل في داخله تلك الروح التي تعودت على تحدي الصعاب. روح تذكرنا بأن أجدادنا واجهوا مصاعب أكبر، وتحديات أعظم، لكنهم خرجوا منها أقوى وأصلب.
من عمق المعاناة.. دروس لا تنسى
لقد علمتنا المحن أن القوة الحقيقية لا تكمن في غياب التحديات، بل في القدرة على مواجهتها. وعلمتنا الأزمات أن النجاح ليس بعدم السقوط، بل في النهوض بعد كل عثرة. هذه الحكمة التي تعلمها شعب كوردستان من تجاربه الصعبة، هي التي تجعله اليوم قادراً على تحويل كل أزمة إلى فرصة، وكل محنة إلى منحة.
إن استهداف المنشآت الحيوية، على صعوبته وآلامه، أعاد إلى الأذهان حقيقة كانت قد غابت عن بعض النفوس: أن نعمة الاستقرار والأمان ليست أمراً مفروغاً منه، بل هي ثمرة جهد كبير وتضحيات عظيمة. كما ذكرنا بأن طريق البناء والتنمية لا يخلو من العقبات، وأن مسيرة التقدم لا تنتظر الظروف المثالية.
ستخرج الإقليم من هذه الأزمة، كما خرج من سابقاتها، أكثر قوة وتماسكاً. فالحكومة تعلمت دروساً جديدة في إدارة الأزمات، والمؤسسات طورت من طرق عملها، والمواطنون ازدادوا إيماناً بقدرتهم على تجاوز الصعاب.
إرادة لا تعرف المستحيل
ما يميز عب كوردستان أن إرادته تشبه الجبال التي يعيش بينها: قوية وثابتة لا تتزعزع. لقد شهد التاريخ كيف واجه هذا الشعب ظروفاً كان المستحيل فيها هو الكلمة الأولى، لكن الإرادة جعلت المستحيل ممكناً.
في أصعب لحظات التاريخ، عندما كان الحصار مشدداً، والتهديد قوياً، والموارد قليلة، لم يستسلم شعب كوردستان لليأس. بل كان ينظر إلى الأمام، متمسكاً بحلم المستقبل، مؤمناً بأن الغد سيكون أفضل. هذه النظرة المتفائلة، المقترنة بالعمل الجاد، هي التي جعلت من كوردستان نموذجاً يُحتذى في الإصرار والمثابرة.
لقد تحولت الإرادة الكوردستانية من مجرد شعار يرفع إلى أسلوب حياة يمارس. نراها في الطالب الذي يتحدى الظروف الصعبة ليكمل تعليمه، وفي الأم التي تسهر على تربية جيل جديد، وفي العامل الذي يبذل جهده في بناء الوطن، وفي الموظف الذي يؤدي واجبه بإخلاص، وفي القائد الذي يضع مصلحة شعبه فوق كل اعتبار.
إلى الأمام.. بروح لا تقهر
اليوم، ونحن نواجه التحديات الجديدة، نحمل في قلوبنا نفس الروح التي حملها الأجداد، ونفس العزيمة التي قادت الآباء، ونفس الإصرار الذي يحرك الأبناء. إنها روح كوردستان الخالدة، التي تنتقل من جيل إلى جيل، كشعلة مضيئة لا تنطفئ.
إن رسالتنا إلى العالم واضحة: قد تدمر المنشآت، وقد تتهدم الأبنية، وقد تنقطع الخدمات، لكن إرادة شعب كوردستان لا تدمر، وعزيمته لا تتهدم، وأمله لا ينقطع. نحن شعب تعلم من الجبال الصمود، ومن التاريخ المقاومة، ومن الإيمان القوة.
إن الطريق إلى المستقبل قد يكون محفوفاً بالتحديات، لكنه طريق لا بد من سلوكه. ونحن نمضي فيه بثقة الواثقين، وإيمان المؤمنين، وعزيمة العارفين بقدراتهم. فلن تتوقف مسيرة كوردستان، ولن تعوقها أي عوائق، ولن تثنيها أي تحديات.
من عمق الأزمة.. دروس مستفادة
لقد علمنا التاريخ أن الأزمات، رغم قسوتها، تحمل في طياتها دروساً ثمينة. فمن أزمة استهداف منشآت الطاقة، نستخلص العبر التالية:
أولاً، أن السلاح الأقوى في مواجهة التحديات. يكون من خلال اتحاد الشعب حول قيادته، وتتضافر جهود جميع المؤسسات، تصبح الأزمة فرصة لإظهار قوة التماسك الاجتماعي.
ثانياً، أن الاستثمار في البنية التحتية ليس رفاهية، بل ضرورة استراتيجية. فالقدرة على استعادة الخدمات بسرعة بعد الأزمات تعتمد على متانة البنى التحتية وجودة صيانتها.
ثالثاً، أن التخطيط الاستباقي لإدارة الأزمات لم يعد خياراً، بل أصبح واجباً وطنياً. فالأزمات المستقبلية تتطلب استعداداً مسبقاً وآليات عمل محكمة.
كلمة أخيرة.. إرادة لا تنتهي
في الختام، تبقى الحقيقة الأكثر بريقاً: أن إرادة شعب كوردستان هي أقوى من كل التحديات، وأعظم من كل المؤامرات، وأبقى من كل المحن. لقد شهد التاريخ على صمود هذا الشعب، ويشهد الحاضر على تمسكه بأحلامه، وسيشهد المستقبل على تحقيقه لطموحاته.
فإلى الأمام دائماً.. كوردستان تبني وتتقدم، وتصنع من الإرادة أسطورة، ومن الصمود تاريخاً، ومن التحدي مستقبلاً زاهراً يليق بأبناء هذه الأرض الأبية. شعب كوردستان يمضي قدماً، لا يعرف التراجع، ولا يعترف بالمستحيل، لأن إرادته أقوى من كل شيء.