حين تتقدّم أربيل.. التحول الذي يغيّر قواعد اللعبة في الشرق الأوسط
يشهد الشرق الأوسط مرحلة إعادة تشكّل عميقة في موازين النفوذ، تتزامن فيها تحولات داخلية في العراق مع اهتزازات إقليمية ودولية تعيد رسم خرائط التحالفات. وفي قلب هذه التحولات جاءت خطوة افتتاح السفارة الأميركية في أربيل بوصفها واحدة من أهم الإشارات الجيوسياسية خلال السنوات الأخيرة، خطوة تتجاوز معناها الدبلوماسي لتُعيد تعريف علاقة الولايات المتحدة بالعراق وبالإقليم تحديدًا، ولتضع أربيل في موقع متقدّم داخل شبكة التحالفات الدولية.
لقد تناولت صحف عالمية مثل New York Times وForeign Policy هذا التطور بوصفه انعكاسًا لاستراتيجية أميركية جديدة تُعيد توزيع ثقلها السياسي والأمني في المنطقة. فالقنصلية الأميركية في أربيل التي تجاوزت كلفتها 600 مليون دولار صُمّمَت منذ البداية بوصفها مجمّعًا دبلوماسيًا–أمنيًا عالي التحصين، وليس مجرد مبنى إداري. حجم الاستثمار هنا لا يعبّر فقط عن حضور دبلوماسي، بل عن رؤية استراتيجية: فالولايات المتحدة لا تنشئ منشأة بهذا الحجم في مكان غير مستقر، ولا تضخ مئات الملايين في بيئة تتوقع اضطرابها أو فقدان السيطرة عليها. هذا وحده يُعدّ درعًا سياسيًا غير مباشر للإقليم، لأن المساس بمنطقة تضم أكبر منشأة أميركية خارج بغداد يعني المساس بالمصالح الأميركية نفسها، وهو ما يمنح أربيل طبقة إضافية من الحماية في مواجهة التهديدات التي ظلت قائمة على مدى عقود.
وقد أشارت Washington Post وPolitico إلى أن واشنطن باتت ترى في الإقليم الشريك الأكثر ثباتًا داخل العراق، خصوصًا مع تصاعد النفوذ الإيراني في بغداد وتراجع قدرة الحكومة المركزية على ضبط تعقيدات المشهد الأمني. إن افتتاح السفارة الأميركية في أربيل يعكس تحوّلاً في طريقة عمل واشنطن داخل العراق: فبدلاً من التعامل الحصري عبر بغداد، أصبح للإقليم بوابة سياسية مباشرة مع الإدارة الأميركية، وهو ما يعزز موقعه داخل الدولة ويخرجه من هامش المعادلة إلى مركزها.
أما تركيا، فقد وجدت نفسها أمام مشهد استراتيجي مختلف. فمنذ خمسينيات القرن الماضي شكّلت قاعدة إنجرليك محور الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط، إلا أن تراجع الثقة بين أنقرة وواشنطن بعد شراء منظومة S-400 الروسية دفع الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في خياراتها. وقد تناولت Financial Times وAl-Monitor هذا التحوّل بوصفه بحثًا أميركيًا عن منصات بديلة تعمل خارج قيود المزاج السياسي التركي. وفي هذه اللحظة، برزت أربيل كبديل استراتيجي محتمل: منطقة مستقرة، قريبة من مسارح العمليات في سوريا، وقادرة على استيعاب بنى تحتية لوجستية وعسكرية تخدم أهداف واشنطن في المنطقة. وهكذا أصبح “تراجع إنجرليك” و”تقدّم أربيل” جزءًا من معادلة جديدة تتشكل في الظل، وقد بدأت ملامحها تظهر بوضوح مع افتتاح السفارة.
وفي المقابل، تنظر إيران إلى هذا التطور بوصفه تحوّلاً يمسّ صميم نفوذها في العراق. فالصحف الإيرانية مثل كيهان وتسنيم اعتبرت افتتاح السفارة الأميركية في أربيل “خطوة عدائية” لأنها تجعل الولايات المتحدة أقرب إلى حدود إيران وأكثر قدرة على مراقبة نشاطات الميليشيات والأذرع العسكرية التي تعتمد عليها طهران داخل العراق وسوريا. ومع أن إيران قادرة على التأثير في بغداد، إلا أن قدرتها على التأثير في خيارات الإقليم تبقى أقل، خاصة بعد أن أصبحت العلاقة بين أربيل وواشنطن علاقة مؤسسية تحكمها مصالح استراتيجية بعيدة المدى.
أما روسيا، فهي الطرف الخاسر غير المباشر لهذا التحول. ففي ظل انشغالها بحرب أوكرانيا وتراجع حضورها في الشرق الأوسط، فإن توسّع الدور الأميركي في شمال العراق يحدّ من قدرتها على المناورة في سوريا ويقلّص نفوذها اللوجستي في المنطقة. وقد كتبت صحيفة Kommersant الروسية أن “تعزيز الوجود الأميركي في أربيل سيعيد ترتيب قواعد التنسيق الروسي و الإيراني في سوريا و العراق معًا”. كما أن استثمارات Rosneft الواسعة في قطاع النفط الكوردي تجعل موسكو قلقة من عودة الشركات الأميركية التي قد تغيّر ميزان السيطرة داخل أحد أهم القطاعات الاقتصادية في الإقليم.
لقد وضع افتتاح السفارة الأميركية في أربيل الإقليم أمام فصل جديد من دوره في الشرق الأوسط؛ فصل تتقدم فيه كوردستان من موقع المراقب إلى موقع صانع الاتجاه. فهذه الخطوة لم تُضِف مبنى دبلوماسيًا إلى خريطة العراق، بل أضافت وزنًا سياسيًا جديدًا إلى هوية الإقليم ودوره، وأعلنت أن أربيل باتت مساحة يُعاد عندها ترتيب الموازين، وتُصاغ عند حدودها حسابات القوى الكبرى. إن لحظة كهذه لا تُقرأ بوصفها امتدادًا لماضٍ سياسي متذبذب، بل كإشارة واضحة إلى أنّ الكورد دخلوا طورًا مختلفًا من حضورهم؛ طور يقوم على قدرة أكبر في حماية الذات، وفاعلية أعلى في التأثير داخل محيطهم، ومكانة تسمح لهم بالمشاركة في صياغة مستقبل المنطقة بدل الاكتفاء بالتفاعل مع أحداثها. إن ما حدث اليوم لا يمثّل افتتاحًا لسفارة بقدر ما يمثّل افتتاحًا لدور تاريخي طال انتظاره، ودخولًا إلى معادلة إقليمية جديدة تتشكل ملامحها من أربيل قبل أي مكان آخر.