لاجان.. حين تفتح الخيانة ثغرة في جدار الدولة
تاريخ الدول يؤكد أن أخطر ما يهددها ليس هجومًا خارجيًا، بل ثغرة داخلية صغيرة قد تُسقِط حصونًا كاملة. فالخيانة، مهما كانت محدودة، قادرة على زعزعة استقرار دولة كاملة وإعادتها إلى نقطة الصفر. وهذا ما يظهر جليًا في التجارب السياسية والعسكرية منذ أقدم العصور.
وقد سجّل التاريخ مثالًا حاسمًا في سقوط القسطنطينية عام 1453؛ فالقوات العثمانية بقيادة السلطان محمد الفاتح لم تنتصر بقوة السلاح وحده، بل بثغرة صغيرة تُعرف بـ“كيركوبورتا”. هذا الباب الذي نُسي إغلاقه أسقط إمبراطورية امتدّت ألف عام، ليؤكد أن الخطر من الداخل هو الأكثر فتكًا.
ولا يختلف الأمر في التاريخ الأوروبي الحديث؛ ففرنسا عام 1940 لم تسقط بسبب قوة الجيش الألماني فقط، بل بسبب الانهيار الداخلي الذي حدث عندما تعاونت حكومة فيليب بيتان مع الاحتلال النازي، مما أدى إلى شلل القيادة وسقوط الدولة من الداخل قبل انهيار الجبهات العسكرية. فالعدو لم ينتصر بالدبابات وحدها، بل بانقسام السلطة وتفكك الجبهة الوطنية.
وفي الشرق الأوسط، تتكرر هذه الحقيقة بشكل أوضح، إذ تتحول الخلافات الداخلية بسهولة إلى أدوات تُستغل لزعزعة الاستقرار. ومن هنا، لا يمكن اعتبار أحداث لاجان مجرد احتجاج اجتماعي، بل محاولة لخلق ثغرة في جدار الأمن الداخلي عبر تحريك الشارع وإرباك المؤسسات، واستدعاء تدخلات خارجية تضع الإقليم في موقف هش.
والأخطر أن بعض الأصوات الكوردية نفسها شاركت في تكبير الأزمة، مطالبة بتدخل الحكومة الاتحادية، وكأن الإقليم عاجز عن إدارة شؤونه. وهذا السلوك—في الفهم السياسي–العسكري—يمثل كسرًا للانضباط الوطني، ويفتح الباب لصراعات لا تخدم إلا الخصوم. فالدولة التي تُفقد هيبتها من الداخل تصبح عرضة لكل تهديد خارجي.
ومقارنة لاجان بأحداث عام 1993 ليست دقيقة، لأن الإقليم آنذاك كان ضمن “المنطقة الآمنة” التي وفّرت حماية أممية للمدنيين دون أن تلغي سيادة العراق، على عكس ما هو عليه اليوم بعد إعلان الفيدرالية عام 2005وترسيم وضع الإقليم دستوريًا. ففي تلك المرحلة، كانت الحماية فوق الأرض، لكن السيادة القانونية بقيت للدولة العراقية بالكامل. ولو كان الإقليم كيانًا مستقلاً في ذلك الوقت، لأعلنت الأمم المتحدة ذلك بوضوح، لكنها لم تفعل. ولهذا، لم يُعتبر دخول القوات العراقية عام 1993 خرقًا للقانون الدولي، بل ممارسةً لصلاحيات الدولة العراقية في مواجهة تهديد خارجي مباشر من إيران، التي كانت تشنّ هجمات حدودية استوجبت ردًا عسكريًا وفق منطق الدولة ومسؤولياتها الأمنية آنذاك.
أما اليوم، فالإقليم كيان فيدرالي دستوري، له شرعيته ومؤسساته وأمنه الداخلي. واستهداف استقراره لا يُعد تهديدًا لحكومة أو حزب فحسب، بل لبنية النظام السياسي الذي أقرّه العراقيون. وقد أثبتت الانتخابات الأخيرة أن المواطن يقف إلى جانب مشروع الدولة والاستقرار، وأن قوة الحكومة نابعة من ثقة الناس، لا من الضجيج السياسي.
ويبقى السؤال الجوهري: إلى متى تُترك الثغرات الداخلية مفتوحة أمام من يريد إعادة الإقليم إلى نقطة الصفر؟ لقد بيّن مكيافيلي أن الدولة التي تواجه مؤامرات لا تحميها الطيبة وحدها، بل الحزم الذي يغلق الأبواب أمام الخيانة قبل أن تتسع. فاستقرار كوردستان اليوم مسؤولية جماعية، وحماية مكتسباتها ليست خيارًا سياسيًا، بل التزام وطني يحفظ مستقبل شعب دفع أثمانًا باهظة ليصل إلى هذه اللحظة.