سیاسة
مصطفى عبدالكريم قایتَوَني
مصطفى عبدالكريم قایتَوَني

كاتب

صلب المسيحيّين بين الماضي والحاضر

صلب المسيحيّين بين الماضي والحاضر
صلب المسيحيّين بين الماضي والحاضر

منذ اللحظة التي صُلب فيها السيّد المسيح عليه السلام على يد سُلطة الإمبراطورية الرومانية، كان الصليب رمزًا للألم والاضطهاد، لكنه في الوقت نفسه تحوّل إلى رمزٍ للإيمان والثبات لدى المسيحيّين الأوائل. فهؤلاء المؤمنون الذين كانوا يُصلبون ويُقتلون يومًا بعد يوم بسبب عقيدتهم، لم يتراجعوا، بل جعلوا من سراديب الظلام وغرفاته بدايةً لميلاد عقيدة عظيمة. ومع مرور الزمن، خرج صوت المسيحية من تلك السراديب إلى أسطح المباني، ثم إلى قلب الدولة، حتى أصبحت دينًا رسميًا للإمبراطورية.

ومع مجيء الإسلام، وجد المسيحيّون احترامًا ومكانة محفوظة باعتبارهم أهل كتاب، وعاشوا إلى جانب المسلمين بسلام في مناطق شتّى، وفي مقدّمتها بلاد الرافدين. ففي العراق، أرض الحضارات، عاش المسيحيّون والمسلمون لآلاف السنين بلا تفرقة تُذكر، من الأسواق الشعبية إلى قصور الحكم، وكانت الروابط الإنسانية بينهم أقوى من أي خلاف.

لكن مع الأسف، تغيّر المشهد بعد عام 2003. فقد أصبحت حياة المؤمنين المسيحيّين في العراق مهدَّدة، بين خطفٍ وقتلٍ وسلبٍ وتهجير. فاضطر معظمهم إلى الهجرة خارج البلاد أو الاستقرار في إقليم كوردستان.

كوردستان… أرض التنوّع الإنساني

يُعدّ إقليم كوردستان نموذجًا للتعايش، حيث يعيش فيه المسلمون والمسيحيون ويستخدمون لغة واحدة، ويتقاسمون تاريخًا مشتركًا. لا مكان للعنصرية الدينية أو التمييز المذهبي، بل تُصان فيه كرامة الإنسان مهما كان دينه أو أصله. غير أنّ بعض التصرفات الفردية، التي يقوم بها متطرفون وجهلة، تهدد هذا النموذج الجميل.

ففي ديسمبر 2015، أقدم بعض المتطرفين على تكسير قبور الآشوريين في إحدى مقابر غرب كركوك. وبعد عشرة أعوام، أعاد التاريخ نفسه في ديسمبر 2025، حيث تعرّضت مقبرة للمسيحيين في إحدى قرى قضاء كوي سنجق للتخريب من جديد. هذه الأعمال ليست فقط غير أخلاقية، بل هي جريمة بحق الإنسانية والتعايش، لذلك أدانت السلطات الكوردستانية هذا الفعل الجبان بشدة.

وفي السياق نفسه، أصدر نيافة الكاردينال لويس ساكو، بطريرك بابل للكلدان في العراق والعالم، بيانًا جاء فيه تحذير خطير:
«إذا لم يطمئن المسيحيون بأن المجرمين سينالون العقاب، فستبدأ هجرة المسيحيين من جديد».
وهو تحذير يعكس إدراكًا عميقًا لخطورة الوضع.

مسلمٌ يدين الظلم

أنا كمسلم، أؤمن بالتعايش بين الأديان وبناء مجتمع حضاري متماسك. أدين بشدة هذه الأفعال التي تُرتكب بحق أهلنا المسيحيين، وأقف إلى جانبهم. وأقول لمن يعنيه الأمر: إن المسيحيّين يُصلَبون من جديد بين الماضي والحاضر، ليس على خشب الصليب، بل على خشب الظلم والإهمال.

رسالة إلى من ينسون الجميل

لننظر إلى واقع آخر: نحو مليون مواطن كوردي يعيشون اليوم في دول أوروبية، وهذه الدول في غالبيتها ذات جذور مسيحية. وكل مهاجر أو لاجئ كوردي يصل إلى تلك الدول، يعلم جيدًا أنّ أول يد تمتد لمساعدته تكون في الغالب من الكنائس ومنظمات الإغاثة التابعة لها.
فكيف ننسى هذا الفضل؟ وكيف يسمح البعض لنفسه بأن يعتدي على حرمة مقابر مسيحية أو يهدد أبناء هذا الدين المسالم؟

نداء إلى شعب كوردستان

لهذا أتوجه بنداء صادق إلى كل مواطن في كوردستان:
قفوا إلى جانب إخوتكم المسيحيين.
احموا هذا التعايش الذي يميز وطنكم.
فكوردستان بدون أهلها المسيحيين تشبه الطعام بلا ملح…قد يكون عددهم قليلًا، لكن تأثيرهم كبير، وإسهامهم في المجتمع لا يُقدّر بثمن.
إن حماية المسيحيين ليست واجبًا وطنيًا فقط، بل واجبٌ أخلاقي وإنساني يعكس رقيّ شعب كوردستان وتمسّكه بقيم السلام والمحبة.