د. حمدي سنجاري
سياسي وكاتب
بعد العقدين… دعوة خالصة لتصحّيح المسار
منذ عام 2003 دخل العراق مرحلة مختلفة كليًا عن كل ما عرفه سابقًا. عقدان من التحولات كشفت أن الدولة لم تنتقل بعد إلى النموذج الذي كان يفترض أن يُبنى على أسس الشراكة والتوازن والتوافق داخل إطار اتحادي واضح، بل ظلّت تتأرجح بين صراع الإرادات وتنازع الصلاحيات وتغليب المصالح الحزبية على الدستورية. واليوم، بعد عشرين عامًا، تبدو الحاجة إلى تصحيح المسار أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
فالدستور الذي صوّت عليه العراقيون في استفتاء عام 2005 كان من المفترض أن يكون العقد الجامع الذي ينظم العلاقة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم، ويضمن وحدة البلاد وفق المادة (1) ووفق المادة (109) التي تلزم السلطات الاتحادية بالحفاظ على وحدة العراق وسلامته ونظامه الديمقراطي. إلا أن التجربة أثبتت أن تجاهل الدستور أو تطبيقه بشكل مجتزأ كان من أبرز الأسباب التي أبقت العلاقة بين الحكومة الاتحادية وإقليم كوردستان في حالة توتر دائم. فالمواد الخاصة بالإقليم مثل المادة 117 التي تعترف رسمياً بإقليم كوردستان، والمادة 121 المتعلقة بصلاحيات الإقليم وإدارة موارده، لم تُطبق إلا بشكل ناقص ومتردد.
كما أن ترك المادة 140 المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها معلّقة لما يقارب عقدين أدّى إلى تعطيل حل جذري كان بإمكانه منع كثير من التوترات التي شهدتها هذه المناطق، وترك ملفات الهوية والإدارة والثروة مفتوحة بلا نهاية واضحة. وبالمقابل، تؤكد المادة 13 على علوية الدستور ووجوب الالتزام به، بينما تُلزم المادة 48 السلطات التشريعية بتمثيل جميع مكونات الشعب، وتدعو المادة 65 إلى تشكيل مجلس الاتحاد الذي لم يُنشأ إلى اليوم رغم أهميته في تحقيق التوازن بين المحافظات والإقليم.
إن التحديات التي عاشها العراق لم تكن سياسية فقط؛ فاقتصاديًا، لا يزال العراق الاتحادي يعتمد بشكل شبه كامل على الاقتصاد الريعي النفطي اذ يشكل النفط أكثر من 90% من إيرادات الدولة. وزاد الأمر تعقيدًا عدم إقرار قانون النفط والغاز منذ عام 2007، رغم أن مسوداته أحيلت إلى البرلمان قبل سنوات، وظلّت الخلافات السياسية — خصوصًا حول إدارة الحقول في إقليم كردستان — تمنع التوافق على صيغة نهائية تدخل حيز التنفيذ، ما كبد العراق خسائر مالية كبيرة تجاوزت 20 مليار دولار . وهنا يبرز السؤال: لماذا لم تُبنَ رؤية جدية لتنويع الاقتصاد؟ لماذا لم تتحول ثروات الجنوب الزراعية إلى مشروع وطني؟ ولماذا لم تُستثمر أهوار الجنوب — المسجلة على لائحة التراث العالمي لليونسكو عام 2016 — في سياحة بيئية كانت قادرة على خلق آلاف فرص العمل؟ ولماذا ظلّت نسب التصحر والملوحة تهدّد مناطق كانت تعد تاريخيًا سلة العراق الغذائية؟
وإلى جانب العجز الاقتصادي، فقد شهد العراق أزمات إنسانية مؤلمة، أبرزها استمرار وجود نازحين ومهجرين رغم مرور سنوات على انتهاء الحرب ضد داعش. فمدينة شنكال لا تزال مثالًا صارخًا على غياب الحلول السياسية والأمنية المستدامة، وفي كل عام تتكرر المناشدات لإعادة الإعمار وعودة الاستقرار. وحتى المجتمع الدولي عبّر عن استغرابه من هذا المشهد؛ ففي مؤتمر "مبس" الأممي عام 2023 قال مبعوث الأمم المتحدة: "عيب أن يبقى لدينا مهجرون في العراق بعد كل هذه السنين."
ولم تتوقف الأزمات عند هذا الحد، فقد تراجعت أعداد المسيحيين في العراق من أكثر من مليون ونصف قبل 2003 إلى ما يقارب 250 ألفًا فقط اليوم وفق إحصاءات كنسية ودولية. لم يعد المسيحيون جزءًا من المشهد السكاني كما كانوا، وأُفرغت مناطق تاريخية من أهلها، ما أدّى إلى تحوّلهم إلى أقلية مهددة بالاندثار. وهذا النزيف السكاني لا يمكن فصله عن غياب سياسات حماية الأقليات ومعالجة الأسباب الجذرية للهجرة.
ومع كل ذلك، جاءت الانتخابات الأخيرة لتكشف خللًا بنيويًا جديدًا، بعدما أدى النظام الانتخابي إلى إضعاف قوى سياسية حصلت على أصوات كبيرة، فيما عزّز حظوظ قوى أخرى حصلت على نسب مماثلة هذا الخلل أضعف الثقة العامة بآلية التداول الديمقراطي.
أعتقد أن العراق اليوم بحاجة إلى لحظة شجاعة يقول فيها الجميع — عربًا وكوردًا وتركمانًا ومكونات — إن الوقت قد حان لتصحيح المسار. لقد أثبتت التجربة أن الخلاف والتنازع لا يبنيان وطنًا، وأن تعليق الحلول أو تأجيلها لا يؤدي إلا إلى تدوير الأزمات. المطلوب هو العودة إلى الدستور باعتباره المرجعية الوحيدة التي تضمن الشراكة الحقيقية والتوازن الفعلي والتوافق الوطني الصادق.
فالذاكرة العراقية لا تنسى أن بناء الدولة الحديثة كان ثمرة تعاون عربي–كردي منذ بدايات القرن العشرين، وأن النضال المشترك هو الذي حمى وحدة البلاد، وأن قوة العراق الاتحادي تكمن في تنوعه لا في مركزيته المفرطة. واليوم، بعد عقدين من الأخطاء والتجارب المؤلمة، لا بد من صياغة رؤية جديدة تراعي مصالح الجميع وتُعيد الثقة بين الدولة ومكوّناتها، وتطلق مشروعًا اقتصاديًا غير ريعي، وتعمل على حماية الأقليات وعودة المهجرين، وتلتزم بتطبيق الدستور بكل مواده لا بما يخدم مزاج السلطة.
إنَّ العراق لن يستقيم ما لم يستقم عقده الدستوري، وسيكون بمقدوره أن ينهض ويرتقي إلى مكانته المستحقّة حين يشعر المواطن بولائه وانتمائه الحقيقي لدولة ترعى حقوقه، وتصون كرامته، وتحقق رفاهيته.