مظفر مزوري
صحفي في مؤسسة كوردستان24
معركة "الحوكمة الرشيدة".. استراتيجية التشكيلة الحكومية التاسعة في الإصلاح ومكافحة الفساد
لم تكن عملية الإصلاح في التشكيلة الحكومية التاسعة، مجرد شعار سياسي أو رد فعل مؤقت للأزمات؛ بل كانت "خارطة طريق" ضرورية لإعادة صياغة هيكلية الحكم والإدارة. ارتكزت هذه الإصلاحات على رؤية تهدف إلى تقليل الاعتماد على النفط، وبناء اقتصاد متنوع، وتأسيس بنية تحتية رقمية تليق بمتطلبات العصر.
عندما تسلمت التشكيلة الحكومية التاسعة مهامها عام 2019، رفعت شعاراً محورياً وواضحاً، "الإصلاح عملية مستمرة، وليست مجرد رد فعل". لم يكن هذا الشعار مجرد دعاية سياسية، بل كان ضرورة وجودية لاستمرار إقليم كوردستان وسط العواصف المالية والاقتصادية.
تميزت التشكيلة الحكومية التاسعة بنهج مغاير في محاربة الفساد؛ فهي لم تعتمد فقط على الإجراءات العقابية التقليدية، بل لجأت إلى "تجفيف منابع الفساد" عبر تغيير النظام الإداري والمالي جذرياً. وفيما يلي تفصيل لأهم ركائز هذه الإصلاحات:
قانون الإصلاح "القاعدة التشريعية الصلبة"
كانت الخطوة الأولى والأجرأ هي إقرار "قانون الإصلاح في الرواتب والمخصصات والمنح والامتيازات والتقاعد" رقم (2) لسنة 2020.
تنظيف قوائم الرواتب: هدف القانون إلى تحقيق العدالة الوظيفية من خلال إزالة الأسماء الوهمية (الفضائيين) ومزدوجي الرواتب غير القانونيين. تم تدقيق ملفات الآلاف من الموظفين والمتقاعدين، وقطع رواتب من كانوا يتقاضونها دون وجه حق، مما وفر مليارات الدنانير شهرياً لخزينة الدولة وأعادها للمستحقين الحقيقيين.
تنظيم التقاعد: وضع القانون حداً لظاهرة التقاعد غير القانوني (خاصة التقاعد برتب عسكرية وهمية)، وأعاد هيكلة الرواتب التقاعدية للدرجات الخاصة بما يحقق نوعاً من العدالة الاجتماعية.
التحول الرقمي "التكنولوجيا كأداة ضد الفساد"
آمنت التشكيلة التاسعة بأن الفساد يختبئ في "الورق" و"النقد" (الكاش). لذا، شنت الحكومة حرباً رقمية لتعزيز الشفافية:
مشروع "حسابي" (MyAccount): يُعد الضربة الأقوى للفساد المالي. من خلال تحويل رواتب أكثر من مليون موظف إلى نظام مصرفي رقمي، أنهت الحكومة عصر توزيع الرواتب يدوياً، مما قضى على التلاعب وسرقة الرواتب، وضمن وصول الأموال لمستحقيها مباشرة.
نظام المشتريات والمناقصات: تم العمل على أتمتة نظام العقود والمناقصات الحكومية ليكون أكثر شفافية، مما قلص فرص المحسوبية والرشاوى في إرساء المشاريع.
التنويع الاقتصادي: "كوردستان سلة غذاء المنطقة"
أدركت الحكومة خطورة الاعتماد الأحادي على النفط، فأطلقت ثورة في القطاعات الأخرى:
القطاع الزراعي: تحول الدعم الحكومي للزراعة من مجرد تقديم أسمدة إلى "تسويق استراتيجي". نجح الإقليم لأول مرة في تصدير منتجاته (الرمان، البطاطا، العسل، التفاح) إلى أسواق الإمارات والسعودية وأوروبا، مما خلق ثقة دولية في "العلامة التجارية" الكوردستانية.
القطاع الصناعي: تم تعديل قوانين الاستثمار لتشجيع الصناعات التحويلية والغذائية ومواد البناء، لتقليل فاتورة الاستيراد وتشغيل الأيدي العاملة المحلية.
إصلاح وزارة البيشمـركة: توحيد القوة
لم تقتصر الإصلاحات على الجانب المدني، بل شملت المؤسسة العسكرية، وهو ملف حيوي وحساس:
التوحيد والهيكلة: بالتعاون مع التحالف الدولي، تسير حكومة الإقليم بخطى حثيثة لتوحيد قوات الوحدات (70 و 80) التابعة للأحزاب تحت مظلة وزارة البيشمركة الوطنية، لتحويلها إلى جيش نظامي محترف وعقائدي.
نظام الرواتب العسكري: تم إخضاع القوات العسكرية لنظام التسجيل البايومتري والمدفوعات الرقمية، للقضاء على الأسماء الوهمية وضمان وصول المستحقات للمقاتلين الفعليين.
إصلاح قطاع الخدمات والطاقة
الكهرباء "مشروع روناكي": بدأت الحكومة تطبيق نظام الخصخصة الذكية والعدادات الإلكترونية، وتهدف عبر مشروع "روناكي" إلى توفير كهرباء 24 ساعة وإنهاء ظاهرة المولدات، وهو إصلاح جذري يمس حياة المواطن اليومية.
الأمن المائي: تبنت الحكومة استراتيجية بناء السدود الصغيرة والمتوسطة (Ponds & Dams) في كل محافظة وقضاء، ليس فقط لتوليد الكهرباء، بل لضمان مخزون مائي للزراعة ومواجهة التغير المناخي.
ضبط المنافذ الحدودية والجمارك
كانت المعابر الحدودية تُشكل سابقاً بؤرة لهدر المال العام والتهريب. اتخذت الحكومة التاسعة إجراءات صارمة في هذا الملف:
توحيد الرسوم: تم توحيد التعرفة الجمركية وتنظيم العمل في كافة المعابر لضمان عدم التفاوت ومنع التلاعب.
الرقمنة الجمركية: تم ربط المنافذ بنظام إلكتروني مركزي يمنع التهرب الجمركي، مما أدى إلى زيادة ملحوظة في الإيرادات غير النفطية (المحلية) التي عادت لتمويل مشاريع الخدمات.
الإصلاح الضريبي ومنع الهدر
ركزت الحكومة على مبدأ "لا أحد فوق القانون المالي":
جباية الضرائب من الشركات الكبرى: لأول مرة، تم إخضاع الشركات الكبيرة والمؤسسات الاستثمارية لنظام ضريبي صارم، بعد أن كانت بعضها تتمتع بإعفاءات غير مبررة أو تتهرب من الدفع.
ترشيد الإنفاق الحكومي: أصدر رئيس الحكومة قرارات صارمة بمنع شراء السيارات للمسؤولين، وتقليل نفقات الإيفادات، والحد من استئجار المباني الحكومية المكلفة، وتوجيه هذه الأموال نحو الخدمات العامة.
الشفافية في ملف النفط "تقرير ديلويت"
رغم التعقيدات السياسية لملف النفط، استمرت التشكيلة التاسعة في الاعتماد على شركة التدقيق العالمية "ديلويت" (Deloitte) لمراجعة ونشر تقارير وعائدات تصدير النفط بشكل دوري للرأي العام. هذا الإجراء عزز من مصداقية الحكومة وأوضح بالأرقام حجم الإيرادات والمصروفات، قاطعاً الطريق أمام الشائعات.
تقليل الروتين "العدو الأول للنزاهة"
الروتين والبيروقراطية هما البيئة الخصبة للرشوة. عملت الحكومة عبر بوابة "حكومة إقليم كوردستان الإلكترونية" على تحويل العديد من الخدمات (مثل تجديد رخص القيادة، تسجيل الشركات، والمعاملات العدلية) إلى خدمات إلكترونية سريعة، مما قلل الاحتكاك المباشر بين المواطن والموظف، وبالتالي قلل فرص الابتزاز والفساد الإداري.
الخاتمة: تأسيس لمستقبل شفاف
إن إصلاحات التشكيلة الحكومية التاسعة في مجال مكافحة الفساد لم تكن مجرد حملات اعتقال استعراضية، بل كانت عملية "بناء مؤسساتي". من خلال رقمنة الدولة، وتنظيف قوائم الرواتب، وضبط الحدود، وضعت الحكومة الإطار القانوني والتقني الذي يجعل الفساد في المستقبل أمراً صعباً ومعقداً.
النتيجة اليوم هي إقليم يمتلك بنية تحتية رقمية واعدة، وقطاعاً زراعياً مصدّراً، ونظاماً مصرفياً يتشكل بقوة. هذه الإصلاحات نقلت الإقليم من مرحلة "إدارة الموارد النفطية" إلى مرحلة "إدارة الاقتصاد المتكامل"، مما يضمن مستقبلاً أكثر استقراراً للأجيال القادمة.
لقد أثبتت هذه التشكيلة الحكومية برئاسة مسرور بارزاني، أن الإرادة السياسية للإصلاح، عندما تقترن بالأدوات التكنولوجية الحديثة، قادرة على تحقيق العدالة وحماية المال العام حتى في أصعب الظروف.