الهوية حين تفقد اسمها: قراءة فكرية في رواية (يوسف الكُوردي)

الهوية حين تفقد اسمها: قراءة فكرية في رواية (يوسف الكُوردي)
الهوية حين تفقد اسمها: قراءة فكرية في رواية (يوسف الكُوردي)

لا تُقرأ رواية (يوسف الكُردي) الصادرة في طبعتها الأولى عام 2025 في دهوك، بوصفها حكاية عن الحرب فحسب، ولا باعتبارها استعادة سردية لمرحلة تاريخية مضطربة، بل يمكن النظر إليها كنصّ إشكاليّ يضع القارئ مباشرة أمام أحد أكثر الأسئلة إرباكا في الفكر الإنساني الحديث: ماذا يتبقّى من الإنسان حين تُنتزع ذاكرته، ويُعاد تعريفه خارج إرادته؟

في زمن كانت فيه الإمبراطوريات تلفظ أنفاسها الأخيرة، وتعيد رسم حدودها بدماء الجنود، يتحرّك هذا العمل السردي في منطقة شديدة الحساسية: المنطقة الفاصلة بين التاريخ بوصفه سجلّا للوقائع، والتاريخ بوصفه عنفا رمزيا يمارس على الأفراد والجماعات. ومن هنا، تنبع أهمية الرواية؛ فهي لا تكتفي باستحضار الماضي، بل تفكّكه، وتُعيد مساءلته من زاوية الإنسان المنسيّ في الهوامش.

يوسف الكُردي، الباشجاويش[1] الذي يجد نفسه منخرطا في معارك الإمبراطورية العثمانية الكبرى، لا يُقدَّم كبطل ملحمي، ولا كرمز قومي مباشر، بل كشخصية متحفزة ومُثارة وجدانيا عالقة في شبكة من التحوّلات السياسية التي لم يشارك في صنعها. وجوده في الحرب لا يحمل معنى الانتماء، بل يكشف مفارقة وجودية: أن يُطلب من الإنسان أن يقاتل باسم كيان لا يعترف به، وأن يُضحّي من أجل سردية لا تراه.

بهذا الاختيار، تُسقط الرواية النموذج البطولي التقليدي، وتستبدله بوعي نقدي يرى الجندي كنتاج لبنية سلطة، لا كفاعل حرّ داخلها. يوسف هنا ليس صانع تاريخ، بل مادته الخام، وهو ما يمنح النص بعدا سياسيا غير مباشر، يتجنّب الخطابة، لكنه لا يتخلّى عن موقفه الأخلاقي.

غير أن الرواية لا تتوقف عند الحرب بوصفها حدثا، بل تتعامل معها كشرط ممهِّد للمأساة الأعمق: فقدان الذاكرة. فحين يعود يوسف من الجبهات، لا يعود حاملا لندوب الجسد فقط، بل فاقدا لذاكرته، وكأن الزمن قرّر أن يمحو ربع قرن من وجوده دفعة واحدة. هنا، لا يُوظَّف النسيان كحيلة سردية مشوّقة، بل كأداة فكرية لتفكيك مفهوم الهوية ذاته.

إذ يتحوّل يوسف، في نظر الآخرين، إلى شخص آخر: الميرالاي[2] حاتم باشا، قائده العثماني، الذي يشبهه حدّ التطابق. وبقدر ما يبدو هذا التحوّل غرائبيا، فإنه في جوهره شديد الواقعية؛ لأن التاريخ مليء بأمثلة لأفراد وشعوب أُجبروا على ارتداء أسماء وسير لم يختاروها. وهنا، تطرح الرواية سؤالها المركزي بجرأة هادئة: هل الهوية نابعة من الداخل، أم أنها تُصاغ اجتماعيا وسياسيا، ثم تُفرض بالقوة؟

يوسف، وهو يعيش داخل اسم مستعار، لا يعاني فقط من فقدان ذاته، بل من مطالبة العالم له بتحمّل تبعات ماض لم يعشه. يُحاسَب على قرارات لم يتخذها، ويُنظر إليه باعتباره امتدادا لسيرة لا يعرف عنها شيئا. وهذه التجربة الفردية تتحوّل، في بنية الرواية، إلى استعارة كثيفة عن مصير جماعي: مصير شعوب فُرضت عليها هويات جاهزة، وسرديات رسمها المنتصرون.

ومن هنا، يمكن قراءة رواية (يوسف الكُردي) كنصّ عن الوطن فاقد الذاكرة؛ الوطن الذي لم يُهزم عسكريا فقط، بل جُرّد من حقّه في رواية نفسه. فكما انفصل يوسف عن تاريخه الشخصي، انفصلت الجغرافيا عن ذاكرتها، وأُعيد تعريفها وفق مفاهيم لا تنتمي إليها. الرواية لا تقول هذا صراحة، لكنها تترك للقارئ مساحة كافية لاكتشاف هذا التوازي الدلالي.

على المستوى الجمالي، يعتمد الكاتب يونس عبدالعزيز – المهندس من مواليد الموصل سنة 1950، صاحب تجربة كتابية متنوّعة، صدرت له أعمال سير ذاتية منها «أوراق لم تُنشر» (2021) و «رماد الأيام» (2023)، إلى جانب ترجمته لعملين عن الإنكليزية هما «في الشرق الملتهب» و (رحلة إلى كردستان المغلقة Journey to Closed Kurdistan) وكلاهما من تأليف الضابط الألماني في عهد هتلر، گوتفريد يوهانس موللرGottfried Johannes Müller– لغة سردية رصينة، تمتاز بالسلاسة والاقتصاد، دون أن تفقد عمقها. أسلوبه ينتمي إلى ما يمكن تسميته بـ«السهل الممتنع»؛ لغة واضحة، غير متكلّفة، لكنها مشحونة بدلالات فكرية ونفسية، تدفع القارئ إلى الاستمرار، لا بدافع التشويق وحده، بل بدافع الرغبة في الفهم.

ويمتاز هذا الأسلوب بقدرته على الموازنة بين التاريخ والخيال، دون أن يطغى أحدهما على الآخر. فالوقائع التاريخية في الرواية لا تُستعمل كخلفية جامدة، بل كإطار حيّ تتشكّل داخله الشخصيات، وتُختبر فيه الأسئلة الكبرى. أما الخيال، فلا ينفصل عن الواقع، بل يعمل على كشف ما لم يقله التاريخ الرسمي: أثر الأحداث على الذاكرة الفردية، وعلى تشكّل الوعي.

هذا التوازن يمنح الرواية قيمة مزدوجة: فهي عمل أدبي قائم بذاته، وفي الوقت نفسه نصّ يفتح أفقا للتأمل الفكري والنقدي. وربما لهذا السبب، لا تنتهي الرواية عند آخر صفحاتها، بل تستمر في ذهن القارئ، وتدعوه إلى إعادة التفكير في مفاهيم بدت بديهية: الاسم، الانتماء، والذات.

ولا يمكن إغفال أن رواية (يوسف الكُردي) تأتي ضمن مشروع إبداعي أوسع للكاتب يونس عبدالعزيز، الذي راكم عبر أعماله السابقة تجربة سردية واضحة المعالم، تقوم على احترام القارئ، والابتعاد عن الاستسهال، مع الحفاظ على قدرة النص على جذب المتلقي حتى الصفحة الأخيرة. فالقارئ هنا لا يُستدرج بالحوادث فقط، بل يُحفَّز بالأسئلة.

في هذا السياق، تصبح الرواية أقرب إلى فعل تذكير منها إلى فعل سردي. تذكير بأن أخطر ما يمكن أن يخسره الإنسان ليس الأرض وحدها، بل ذاكرته، وبأن الهوية، حين تُفصل عن التاريخ الحقيقي، تتحوّل إلى قناع هشّ، سرعان ما ينكسر عند أول اختبار.

إن رواية (يوسف الكُردي)، ليست رواية عن الماضي بقدر ما هي نصّ عن حاضر مستمر، وعن إنسان ما زال يُعاد تعريفه بالقوة في أماكن كثيرة من العالم. إنها عمل أدبي يرفض الإجابات السهلة، ويصرّ على إبقاء السؤال مفتوحا، لأن السؤال – في النهاية – هو ما يحفظ للذاكرة معناها.

هكذا، لا يخرج القارئ من هذه الرواية وهو يحمل يقينا جديدا، بل شكّا خلّاقا: شكّا في الأسماء، وفي السرديات الجاهزة، وفي فكرة الهوية حين تُختزل في تعريف واحد. وذلك، في ذاته، أحد أعلى أشكال النجاح الأدب.

[1] كبير الجاويشية والجاويش هي رتبة عسكرية كانت تعادل تقريبًا رقيب أو مساعد ضابط.
[2] رتبة عسكرية عثمانية تعادل تقريبا عقيد في الجيوش الحديثة.