العراق في عين الإعصار.. استراتيجية النجاة ونهاية المنطقة الرمادية

العراق في عين الإعصار.. استراتيجية النجاة ونهاية المنطقة الرمادية
العراق في عين الإعصار.. استراتيجية النجاة ونهاية المنطقة الرمادية

مع اقترابنا من نهاية 2025، يسيطر على الشارع العراقي شعور ثقيل بأن الهدوء الحالي ليس إلا ستارة تخفي وراءها عاصفة غير مسبوقة. لسنا أمام أزمة سياسية تقليدية كالتي اعتدنا عليها في تشكيل الحكومات السابقة، بل نحن اليوم في قلب معادلة اللا خيار. الحقيقة التي يتهرب الجميع من قولها في العلن هي أن العراق بات محشوراً في زاوية ضيقة جداً؛ فواشنطن، بإدارتها الحالية، لم تعد تكتفي برسائل التحذير الورقية، بل وضعت فيتو صريحاً وقاسياً: أي حكومة تمنح الفصائل المصنفة دولياً حقائب سيادية أو أمنية، ستواجه عزلة شاملة.

هذا المأزق وضع الإطار التنسيقي وكل صناع القرار في بغداد أمام حائط مسدود. فمن جهة، لا يمكن تجاوز هذه الفصائل التي تملك وزناً انتخابياً وعسكرياً لا يستهان به، ومن جهة أخرى، هناك إدراك حقيقي بأن تحدي الإرادة الأمريكية في هذا التوقيت هو انتحار اقتصادي قبل أن يكون سياسياً. واشنطن لم تعد بحاجة لإرسال دبابات، هي ببساطة تلوّح بـ منصة سويفت وبالتحكم في تدفقات الدولار، وهو السلاح الذي يدرك الجميع في بغداد أنه كفيل بإنهاء أي حكومة خلال أسابيع إذا ما توقفت الرواتب وانهار الدينار.

لكن ما يقلق فعلاً، هو دخول إسرائيل على خط الأزمة بشكل مباشر وعلني. لم يعد التهديد الإسرائيلي مجرد تسريبات صحفية، بل صار واقعاً يلوح في سماء بغداد. تل أبيب باتت تتعامل مع الساحة العراقية كجبهة مفتوحة، والتحليلات الأمنية التي تصل للمسؤولين في العراق تشير إلى أن بنك الأهداف الإسرائيلي لم يعد يقتصر على مخازن السلاح في المناطق النائية، بل وصل إلى رؤوس الهرم ومقرات القيادة داخل المدن. هذا الانكشاف الأمني يضع الدولة العراقية في موقف محرج؛ فهي غير قادرة على حماية أجوائها تقنياً، ومقيدة سياسياً عن القيام بأي رد فعل قد يجر البلاد لحرب شاملة لا ناقة لها فيها ولا جمل.

إننا أمام ثلاثة مسارات لا رابع لها: إما أن تقتنع القوى السياسية بضرورة الانحناء للعاصفة ودفع الفصائل للانسحاب إلى الظل مؤقتاً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهذا ما تحاول الدبلوماسية العراقية تسويقه الآن. أو أننا سنشهد ضربات تأديبية جراحية تستهدف قيادات نوعية، مما قد يفجر ردود فعل تجعل من العراق ساحة حرب بالوكالة مرة أخرى. أما السيناريو الأسوأ، فهو الإصرار على التصعيد الذي قد ينتهي بمواجهة مفتوحة تطيح بالاستقرار الهش الذي بُنيَ بشق الأنفس.

زمن مسك العصا من المنتصف انتهى. المنطقة الرمادية التي كانت بغداد تلعب فيها بين طهران وواشنطن تلاشت تماماً. اليوم، الدولة العراقية أمام اختبار وجودي: هل تفرض سيادتها وتحتكر السلاح فعلياً لدرء الخطر الخارجي؟ أم تترك الأمور للصدفة وتنتظر ما ستحمله طائرات "إف-35" أو قرارات الخزانة الأمريكية؟ الهدوء الذي نعيشه في بغداد الآن يشبه تماماً هدوء غرفة العمليات قبل جراحة حرجة، والمريض هو النظام السياسي نفسه، الذي بات مطالباً ببتر جزء من نفوذه لإنقاذ بقية الجسد قبل فوات الأوان.

ولكن، هل ثمة مخرج من هذا النفق؟
إن تشخيص الداء، برغم مرارته، ليس إلا نصف الطريق؛ فالحديث عن الانسداد والضربات المتوقعة صار يملأ المقاهي وصالونات السياسة في بغداد، لكن السؤال الحقيقي الذي يجب أن يطرحه صانع القرار الآن: كيف نعبر هذا العام دون أن تتحول مدن العراق إلى ساحات لتصفية الحسابات الكبرى؟

الحل لا يبدأ من واشنطن ولا من طهران، بل يبدأ من شجاعة المكاشفة في الداخل. أولى خطوات النجاة تتطلب الانتقال من سياسة التقية السياسية إلى سياسة الدولة الصريحة. لا يمكن للعراق أن يطالب المجتمع الدولي باحترام سيادته وهو يترك مفاتيح قرار السلم والحرب موزعة بين مكاتب الأحزاب وقادة الفصائل. الحل يكمن في إيجاد صيغة تخارج واقعية؛ تضمن للفصائل وجوداً سياسياً واجتماعياً قانونياً، مقابل التزام حقيقي وشامل بوضع السلاح تحت إمرة القائد العام للقوات المسلحة، ليس بالبيانات الإنشائية، بل بتغيير حقيقي على الأرض يلمسه العالم قبل الداخل.

أما على الصعيد الاقتصادي، فإن الاحتماء بالدولار يتطلب شفافية مطلقة. لا بد من الاعتراف بأن زمن غسيل الأموال وتهريب العملة تحت غطاء التجارة قد انتهى بقرار دولي غير قابل للتفاوض. المخرج هنا ليس بالتصادم مع البنك الفيدرالي الأمريكي، بل بتبني معايير امتثال مالية صارمة تقطع الطريق على أي ذريعة لاستخدام الهراوة الاقتصادية ضد لقمة عيش العراقيين. يجب أن يفهم الجميع أن حماية الدينار العراقي هي معركة سيادة لا تقل أهمية عن حماية الحدود.

دبلوماسياً، يحتاج العراق إلى الانتقال من دور الساعي بالبريد بين القوى المتصارعة، إلى الدور المحايد. يجب إيصال رسالة واضحة للجميع، ان العراق لن يكون منطلقاً لأي اعتداء، وفي الوقت نفسه، لن يكون رئة يتنفس منها أي طرف على حساب استقراره الوطني. هذا يتطلب ميثاق شرف داخلي توقع عليه كل القوى السياسية، يضع مصلحة بغداد فوق أي اعتبار إقليمي، ويمنح الحكومة الغطاء اللازم للتحرك دولياً لطلب ضمانات بعدم استهداف الأراضي العراقية.

في المحصلة، الوقت ليس في صالح العراق، والمساحات التي كان يناور فيها، بدأت تضيق حتى كادت أن تختفي. إنقاذ العراق في 2026 يتطلب جراحة مؤلمة اليوم؛ فالخيار لم يعد بين السيء والأسوأ، بل بين بقاء الدولة أو ضياع الجميع في الفوضى. الهدوء الذي يسبق العاصفة هو الفرصة الأخيرة لاعادة ترتيب البلد، قبل أن يأتي الغرباء ليرتبوه على مقاس مصالحهم، وعلى أنقاض أحلام الشعب.