مهند محمود شوقي
كاتب كوردي
حين تآكلت الفيدرالية.. كيف تغيّر العراق بعد 2014
منذ لحظة احتلال العراق عام 2003، لم يعد هذا البلد يعيش الزمن بوصفه تتابعاً طبيعياً للأحداث، بل كسلسلة من الصدمات المتراكمة. لم يكن الاحتلال مجرد تغيير نظام سياسي، بل تفكيك دولة كاملة، أُخرجت من توازنها التاريخي وأُعيد تركيبها على أسس هشّة، جعلتها أكثر عرضة للارتدادات الإقليمية اللاحقة. ما جرى في العراق كان، باعتراف مراكز بحث غربية لاحقاً، تجربة مفتوحة لإعادة تشكيل الدولة بالقوة، دون ضمانات حقيقية للاستقرار أو وحدة القرار، وهو ما وثّقته تقارير RAND Corporation والبنك الدولي في سنوات ما بعد الاحتلال.
في تلك المرحلة، كان العراق يُدار بمنطق إدارة الأزمة لا بمنطق بناء الدولة. مؤسسات ضعيفة، قرار سيادي موزّع، وسلاح بدأ يخرج تدريجياً من يد الدولة ليصبح جزءاً من المعادلة السياسية. ومع كل محاولة للترميم، كانت الفجوة تتسع بين الدولة والمجتمع، وبين النص الدستوري والواقع الفعلي. المواطن العراقي لم يكن معنياً بالسجالات الدستورية بقدر ما كان يبحث عن دولة تحميه وتوفّر له الحد الأدنى من الاستقرار، وهو ما لم يتحقق.
لكن الخلل الأعمق لم يكن أمنياً فقط، بل مسّ جوهر الصيغة السياسية التي قام عليها ما سُمّي بـ«العراق الجديد». فالعراق الذي تشكّل بعد عام 2005 كان، نظرياً، دولة اتحادية قائمة على الشراكة بين مكوناته، شراكة نصّ عليها الدستور وكرّستها التفاهمات السياسية الأولى بعد الاحتلال. غير أن هذه الصيغة لم تُدار بوصفها عقداً سياسياً ملزماً، بل كمرحلة انتقالية قابلة للتأويل، سرعان ما بدأت تتآكل تحت ضغط الصراع على السلطة وتراكم الأزمات. ومع اندلاع الربيع العربي عام 2011، ثم انسحاب القوات الأمريكية نهاية العام نفسه، دخل هذا الخلل البنيوي مرحلة أكثر حدّة، إذ غاب الضامن الخارجي للتوازنات، وتراجعت فكرة الشراكة لصالح منطق المركز.
وعندما جاءت صدمة عام 2014 وسقوط الموصل، لم يواجه العراق تهديداً أمنياً فقط، بل شهد تحوّلاً عملياً في مفهوم الدولة الاتحادية. فالحرب ضد الإرهاب، رغم مشروعيتها وضرورتها، استُخدمت لتكريس إدارة أحادية للقرار السياسي والأمني، همّشت روح الشراكة، وأضعفت الثقة بين المركز والأطراف. ومنذ ذلك الحين، انتقل العراق، بهدوء ومن دون إعلان رسمي، من دولة يُفترض أنها اتحادية مبنية على الشراكة، إلى دولة اتحادية بالاسم، تُدار بروح الغلبة السياسية لا بروح التوافق الدستوري.
وعندما وصلت المنطقة إلى لحظة الربيع العربي، كان العراق قد استُنزف مسبقاً سياسياً وأمنياً إلى درجة جعلته عاجزاً عن امتصاص الصدمة كما فعلت دول أخرى. الربيع العربي لم يُشعل العراق، لكنه هزّ أرضه من تحت أقدامه. فانسحاب القوات الأمريكية نهاية عام 2011، وفق تقديرات International Crisis Group، ترك دولة غير مكتملة السيادة تواجه محيطاً إقليمياً مشتعلًا، من الحرب في سوريا إلى انهيار الحدود وصعود الخطابات الطائفية، وهي عوامل اجتمعت لتدفع العراق نحو أخطر منعطف في تاريخه الحديث.
لم تكن أحداث عام 2014 وسقوط الموصل سوى النتيجة المنطقية لتراكم طويل من الإخفاقات السياسية والأمنية. وبين عامي 2014 و2017، خاض العراق حرباً وجودية ضد الإرهاب. لم تكن معركة عسكرية فحسب، بل معركة بقاء دولة. تقارير وزارة الدفاع الأمريكية والتحالف الدولي تؤكد أن العراق كان الساحة الأثقل في مواجهة تنظيم “داعش”، وأن كلفة هذه الحرب كانت مدمّرة على مستوى البنية التحتية والاقتصاد والنسيج الاجتماعي.
ورغم الانتصار العسكري، خرج العراق من الحرب مثقلاً بأسئلة أكبر من تلك التي دخل بها: من يملك السلاح؟ من يملك القرار؟ وأين تقف الدولة من كل ذلك؟ فالدولة التي انتصرت عسكرياً لم تنتصر سيادياً بالقدر نفسه، وبقيت تعاني من ازدواجية السلطة وتعدد مراكز القوة، وهي نتيجة مباشرة لغياب عقد شراكة واضح في لحظة الخطر.
بعد هزيمة “داعش”، تغيّر الخطاب الدولي تجاه العراق. لم يعد الإرهاب هو العنوان الأول، بل السلاح خارج إطار الدولة. الولايات المتحدة، التي قادت التحالف الدولي، انتقلت إلى مرحلة الضغط السياسي والأمني لنزع سلاح الفصائل أو دمجها الكامل ضمن مؤسسات الدولة. تقارير RAND وBrookings Institution تعتبر أن استمرار وجود فصائل مسلحة مستقلة يشكّل تهديداً مباشراً لاستقرار العراق ويقوّض أي مشروع دولة حقيقية.
غير أن هذا الملف لم يكن عراقياً خالصاً. فإيران، التي وسّعت نفوذها في العراق بعد 2003، وجدت في الفصائل المسلحة أداة استراتيجية لتثبيت حضورها الإقليمي وموازنة النفوذ الأمريكي. دراسات Chatham House وCarnegie Middle East Center تشير بوضوح إلى أن طهران لا تنظر إلى هذه الفصائل كحالة مؤقتة، بل كجزء من منظومة نفوذ طويلة الأمد، تُستخدم سياسياً وأمنياً عند الحاجة.
وهكذا وجد العراق نفسه، مرة أخرى، في قلب صراع لا يملكه بالكامل. الإصرار الأمريكي على نزع السلاح يصطدم بحسابات إيرانية معقّدة، وبينهما دولة تحاول استعادة سيادتها من دون أن تنزلق إلى مواجهة داخلية. المشكلة لم تعد في وجود السلاح فقط، بل في تحوّله إلى أداة سياسية تُستخدم لتعديل موازين السلطة، لا لحماية الدولة.
اليوم، وبعد أكثر من عقدين على الاحتلال وأكثر من عقد على الربيع العربي، يقف العراق أمام مفترق تاريخي حاسم. فإما أن ينجح في إعادة تعريف الدولة بوصفها الجهة الوحيدة التي تحتكر السلاح والقرار، وتعيد الاعتبار لفكرة الشراكة التي أُفرغت من مضمونها، أو يبقى عالقاً في منطقة رمادية، لا حرب شاملة ولا دولة مكتملة. التجربة العراقية أثبتت أن الدول لا تُبنى بالشعارات، ولا تُحمى بتعدد البنادق، بل بعقد سياسي واضح وسيادة غير قابلة للتفاوض.
العراق لم يعد بحاجة إلى توصيف جديد لأزمته، بل إلى قرار شجاع بإنهاء المرحلة الانتقالية التي طالت أكثر مما يجب. فالدولة التي لا تملك سلاحها ولا تحسم شكل شراكتها، لا تملك مستقبلها، مهما تغيّرت العناوين وتبدّلت التحالفات.