ب. د. فرست مرعي
كاتب وأستاذ جامعي
الكريسماس بين المفهومين الاوروبي الطقسي والامريكي الثقافي العولمي
القسم الاول
القديس نيكولاس في أميركا
في هولندا، رفض الأطفال والأُسَر ببساطة التخلي عن فكرة القديس نيكولاس جالب الهدايا، فجلبوا شخصية (سينتركلاس – Sinterklaas ) معهم إلى مستعمرات العالم الجديد، حيث انتشرت الأساطير الجرمانية الشقية والمخيفة التي تجلب الهدايا.
ولكن في أوائل عهد أميركا(= الولايات المتحدة الامريكية وكندا) لم يكن عيد الميلاد عطلة مستحدثة، وأُلغيت العطلة في مدينة نيو إنكلاند، وفي أماكن أخرى أصبح الاحتفال وثنيًا نوعًا ما كالاحتفال عيد ساتورن في الأساطير الرومانية:" وهي احتفالات قديمة كانت تُقام سنويًا للإله ساتورن إله الحصاد. وكانت الاحتفالات تبدأ في يوم 17 ديسمبر/ كانون الاول وتستمر يومين، ولكنها أصبحت تمتد إلى أسبوع فيما بعد. وربما نشأت أصلاً عن كلمات شكر كانت تُرَدَّد في الاحتفال بذكرى الزراعة الشتوية. وبمرور السنوات فقدت أهميتها الزراعية وأصبحت مناسبة للاحتفالات العامة. حتى أن العبيد كانوا يُمنحون حرية مؤقتة ليفعلوا ما يحلو لهم في فترة العيد. وكانت تقام في عيد الإله ساتورن الولائم والزِّيارات، وتُمنح الهدايا والعطايا. ومن الهدايا المعروفة في هذه المناسبة الشموع وتماثيل الطين الصغيرة الذي احتل مكانته في التقويم سابقًا". حيث قال بولر جيري بولر هو مؤرخ وباحث كتب الكثير عن سانتا كلوز وتاريخ شخصية عيد الميلاد، من ضمن ذلك كتابه المشهور Santa Claus: A Biography (سانتا كلوز: سيرة ذاتية)، حيث يتتبع تطور الشخصية التاريخي والاجتماعي من أصولها وحتى صورتها الحديثة في الثقافة الشعبية.
في كتابه يقوم بتحليل كيف تطورت فكرة سانتا كلوز في أمريكا وأوروبا عبر الزمن، ويبحث في الأدب والفن والإعلام المتعلق بهذه الشخصية. رغم أن البعض قد يصفه بــ”الأمريكي“ نظراً لتركيزه على تطور سانتا كلوز في الثقافة الأميركية، فإن جيري بولر أستاذ باحث في التاريخ حاصل على الدكتوراه ويُدرّس في جامعة مانيتوبا في كندا، وليس أمريكياً بالمقام الأول، وهو بهذا الصدد يقول: "كان يُحتفل به في الهواء الطلق[= يقصد عيد ساتورن] مصحوبًا بشرب الكحول والفوضى تعمُّ الأجواء"، وأضاف أيضًا: ’’هذا ما أصبح عليه الاحتفال في إنكلترا كذلك، ولم يكن هناك شخصية خيالية معيّنة تجلب الهدايا".
ثم، خلال العقود الأولى من القرن التاسع عشر، تغيركل ذلك بفضل مجموعة من الشعراء والكتّاب الذين سعوا إلى جعل عيد الميلاد احتفالًا للأسرة – من خلال إحياء وإعادة صياغة شخصية القديس نيكولاس. وفي عام 1821م ذهبت قصيدة مجهولة بعنوان (صديق الأطفال) – “The Children’s Friend” أبعد من ذلك بكثير؛ وقامت بتشكيل شخصية سانتا الحديثة وربطها مع عيد الميلاد، وقال بولر: " هنا شهدنا ظهور سانتا كلوز،‘‘ وأضاف: ’’لقد أخذوا شخصية القديس نيكولاس السحرية – جالبة الهدايا، وقاموا بتجريده من أي خصائص دينية، وألبسوا (سانتا ) هذا فراءً مشابهًا للشخصيات الجرمانية الشعثاء التي تقدم الهدايا".
هذه الشخصية جلبت الهدايا للفتيات والفتيان الطيبين، لكنه كان يحمل عصى التأديب أيضًا، وأشارت القصيدة إلى " توجيه يد الوالدين لاستخدامها عند انحراف الأبناء عن سمات الفضيلة"، وتم سحب عربة سانتا الصغيرة من قبل حيوان رنة مفرد — ولكن كل من السائق وفريق العمل خضعوا للتجديد في السنوات اللاحقة.
وفي عام 1822م كتب كليمنت كلارك مور (Clement Clarke Moore) قصيدة بعنوان «زيارة من القديس نيكولاس( – “A Visit From St. Nicholas” والمعروفة أيضًا باسم «ليلة قبل عيد الميلاد – “The Night Before Christmas” ، لأطفاله الستة، مع عدم وجود نية لإضافة ظاهرة سانتا كلوز العائم، تم نشر القصة مجهولة الكاتب في العام التالي 1823م، وحتى يومنا هذا لا زال سانتا المرح البدين، يقود عربة تجرّها ثمانية من حيوانات الرنة.
وقال بولر: ’’لقد انتشرت هذه الصورة بسرعة هائلة،‘‘ ولكنها كانت مشابهة لقصة القصيدة، وفسحت المجال للكثير من الخيال، وشهد القرن التاسع عشر ظهورًا لشخصية سانتا في ملابس ملونة، وأحجام مختلفة مصغّرة وضخمة، ومجموعة متنوعة من أشكال مختلفة، وقال بولر أيضًا: ’’لدي صورة رائعة له يبدو فيها مثل جورج واشنطن(1732 - 1799م) مؤسس الولايات المتحدة تمامًا وراكبًا عصا المكنسة".
وأضاف أنه حتى أواخر القرن التاسع عشر، أصبحت صورة سانتا موحدة كشخص بالغ كامل الحجم، يرتدي رداءً أحمر بحافات مزيّنة بالفراء الأبيض، يقوم بالمغامرات من القطب الشمالي في زلّاجة تحركها حيوانات الرنة ويراقب تصرفات الأطفال.
إن شخصية سانتا المرحة والبدينة وحاملة وجه العجوز تم إنشاؤها إلى حد كبير من قبل الامريكي توماس ناست (Thomas Nast)، رسام الكاريكاتير السياسي الكبير في الحقبة التي شهدت العديد من الأحداث، وأضاف بولر: "مع ذلك؛ فإن ناست جعله بنصف الحجم الذي كان عليه"، وقال أيضًا: ’’وفيما أعتقده عنه فهو غير لائق نوعًا ما بما يشبه ملابس داخلية طويلة تُعرف بأطقم جونز".
ما أن تأسست أميركا الشمالية، شهدت شخصية "سانتا كلوز" تراجعًا عكسيًا إلى أوروبا، واستبدال المراسيم المخيفة وإعطاء الهدايا واعتماد الأسماء المحلية مثل (Père Noël) – (فرنسا)، أو)) Father Christmas) –(بريطانيا العظمى). وقال بولر: "ما حدث هو ترويض هذه الحكايات الجرمانية التي تبلورت في وقت متأخر من العصور الوسطى".
وانتشر هذا التقليد في أمريكا بعد ذلك بفعل البروتستانت الهولنديين الذين كانوا من المهاجرين الاوائل الى أمريكا، إلا أنهم حَوّلوا صورة القديس إلى صورة ساحر أسموه سانتا كلوز Santa Claus.
لا يؤمن جميع المسيحيين بـسانتا
على الرغم من جلاء فكرة سانتا بلا شك، إلّا أنها أثارت جدلًا واسعًا. ففي الاتحاد السوفيتي، كانت شخصية سانتا كلوزتتعارض مع سياسة الزعيم الشيوعي السوفيتي "جوزيف ستالين"(1878 – 1953م)، قبل الثورة الروسية، كان (الجد فروست - ديد موروز) – شخصية روسية خرافية – الجد فروست (والأدق اسمه بالإنجليزية Jack Frost – جاك فروست) هو شخصية فولكلورية خيالية في التراث الأوروبي والأمريكي، وليست شخصية دينية أو تاريخية حقيقية). فهو تجسيد للبرد والصقيع والشتاء، يُصوَّر ككائن أو روح غير مرئية: يُكوِّن الصقيع على النوافذ يسبب التجمد يلوّن الطبيعة بالثلج. لا يُعد قديسًا ولا مرتبطًا بالكنيسة المفضل لعيد الميلاد الذي اعتمد صفات مقاربة لسانتا مثل: "سينتركلاس الهولندية" (وهي شخصية تاريخية وفلكلورية ومن تقاليد عيد الميلاد في هولندا وبلجيكا، والتي تحضر الهدايا للأطفال في عشية القديس نقولا)، وقال بولر: "عندما تم تشكيل الاتحاد السوفياتي، ألغى الشيوعيون الاحتفال بمراسيم عيد الميلاد وإعطاء الهدايا".
وأضاف بولر: ’’ثم في ثلاثينيات القرن العشرين، عندما كان الزعيم السوفيتي ستالين بحاجة إلى تعزيز الدعم، سمح بإعادة ظهور(الجد فروست) ليس كجالب للهدايا في عشية عيد الميلاد بل في رأس السنة الجديدة"، وكانت محاولات استبدال مراسيم عيد الميلاد في الاتحاد السوفيتي غير موفقة في نهاية المطاف، وكذلك المحاولات السوفيتية لنشر نسخة علمانية من (الجد فروست)، بمعطف أزرق لتجنّب الالتباس مع سانتا المسيحية، في جميع أنحاء أوروبا.
وقال بولر: ’’في كل مكان ذهبوا فيه بعد الحرب العالمية الثانية، حاول السوفييت أن يستبدلوا تقاليد جلب الهدايا في أماكن مثل: بولندا أو بلغاريا.‘‘ وأضاف: " لكن السكان المحليين رفضوا التجديد حتى انهار الاتحاد السوفياتي عام 1989م وعادوا إلى تقاليدهم".
ولا تزال شخصية سانتا مسيّسة حول العالم، وقال بولر بأن القوات الأميركية نشرت نسخة من الرجل الظريف فى جميع أنحاء العالم فى السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية مباشرة، وتلقت ترحيبًا في العموم، كرمز للكرم الأميركى فى إعادة إعمار الأراضى التى مزقتها الحرب.
وفي الوقت الحاضر، ومع ذلك، فإن الشعوب في كثير من الدول لديها نسختها الخاصة بهم، إما لأنه يمثل فكرة تسويقية على حساب المسيح أو لمجرد أنها فكرة دخيلة، وأضاف قائلًا: "في أماكن مثل: جمهورية التشيك وهولندا والنمسا وأميركا اللاتينية، جميعهم يُبدون معارضة قوية جدًّا للحركات المناهضة لسانتا، لأنها شعوب تحاول الحفاظ على تقليد جلب الهدايا الخاصة بعيد الميلاد، وحمايتهم من سانتا أميركا الشمالية".
يبدو أن مثل هذه الجهود من غير المرجح أن توقف الاهتمام المتزايد بسانتا كلوز، ولكن مساعديه يمكن أن يختطفوا له بعض اللحظات في جدول أعماله المزدحم عشية عيد الميلاد.
حقبة العولمة والتسعيل
أنا مسيحي الثقافة كان هذا ما قاله العالم البريطاني (ريتشارد دوكينز) زعيم الملحدين الاشهر في عام 2007م، حين اتهمه عضو حزب المحافظين البريطاني (مارك بريشر) بأنه يروج لرهاب المسيحية وأنه يسعى للتقليل من قدر الكريسماس، فيرد عليه قائلاً:" ليس لدي شيء ضد التقاليد المسيحية فبريطانيا بلد مسيحي تاريخيا وانا مسيحي الثقاقة لذا فانا احب أن انشد ترانيم عيد الميلاد كالجميع، لست من أولئك الذين يرددون تخليص بلدنا من إرثه المسيحي، أنا ادرك جيدا الاثر الثقافي المسيحي لبلدنا، صحيح ان الكريسماس مناسبة دينية، لكن غير المؤمنين أوأصحاب الديانات الاخرى يمكنهم المشاركة فيه كذلك".
ما كل هذا الجدل الذي يحف بالاعياد، لماذا يحتل هذا الموضوع هذه الاهمية في القرن الحادي والعشرين العلماني العولمي، الذي يفترض فيه أنه ودع الاديان منذ أمد بعيد؟!!، وما الرابط بين الثقافة المسيحية من جهة والكريسماس من جهة اخرى؟.