بين "صندوق باندورا" و"مستنقع فيتنام": من خذلان 1991 إلى سياسة تجويع 2025

بين "صندوق باندورا" و"مستنقع فيتنام": من خذلان 1991 إلى سياسة تجويع 2025
بين "صندوق باندورا" و"مستنقع فيتنام": من خذلان 1991 إلى سياسة تجويع 2025

أربيل (كوردستان 24)- لم تكن السياسة الأمريكية في العراق مجرد سلسلة من التخبطات العشوائية، بل مساراً خاضعاً لموازين الكلفة والمخاطر الجيوسياسية المتبدلة. ففي عام 1991، فضّلت إدارة جورج بوش الأب التراجع في اللحظة الحاسمة، خشية السقوط في "مستنقع" يعيد ذاكرة فيتنام المريرة.

كان الهاجس الأكبر آنذاك هو تجنب فتح "صندوق باندورا"، أي منع تفكك الدولة الذي قد يمنح طهران فرصة ذهبية لملء الفراغ، مما جعل واشنطن تختار استقرار الاستبداد القاسي على مخاطر الفوضى، وهو ما صاغه المتحدث باسم البيت الأبيض حينها "مارلين فيتزواتر" بوضوح حول تجنب الانزلاق في حرب أهلية لا يمكن الخروج منها. 

والمثير للدهشة ما وثقه الصحفي الأمريكي الشهير "جوناثان راندل"، حين كشف عن مقابلة تلفزيونية اعترف فيها بوش الأب صراحةً بخطئه في دعوة العراقيين للإطاحة بصدام حسين ثم التخلي عنهم، خوفاً من فتح "صندوق باندورا".

هذا الحذر الاستراتيجي انقلب إلى مغامرة في عام 2003، حين قررت واشنطن فتح "الصندوق" بنفسها دون امتلاك تصور للبديل. إن التحول من "الاحتواء" إلى "التغيير الشامل" لم يغير الجوهر النفعي للسياسة الأمريكية، بل غير فقط تقدير المخاطر، فما كان يُخشى حدوثه عام 1991 من تمدد إيراني وفوضى، أصبح واقعاً طُبّق بِيَد أمريكية عام 2003 وما بعدها.

هنا تحول العراق من ساحة نصر مفترض إلى "مستنقع" حقيقي، غاب عنه أفق الخروج. إنها العقلية ذاتها التي أنتجت مأساة أفغانستان من قبل، حين صنعت واشنطن "القاعدة" لمواجهة السوفييت، لتتحول لاحقاً إلى شوكة في رجلها أدمت أمنها القومي لعقود. 

واليوم، يتكرر المشهد بصيغة "إدارة الأزمات" لا حلها؛ فإرسال مبعوثين ومستشارين مثل "مارك سافايا" في عام 2025 ليس إلا محاولة لضبط إيقاع التمزق وضمان المصالح الحيوية تحت مسمى "الشراكة الأمنية". هذا الوجود الاستشاري الفني هو الوجه الحديث للوصاية التي تحاول تجنب كلفة الاحتلال المباشر مع الاحتفاظ بخيوط التأثير في مفاصل الدولة السيادية.

إن المفارقة الصادمة تكمن في أن واشنطن التي ادعت حماية التجربة الديمقراطية، تقف اليوم موقف المتفرج أمام تشابك الأوضاع وتعقيدها؛ حيث أصبح الشعب العراقي عامة، والكورد خاصة، الضحية الأولى لهذا التخبط. فإقليم كوردستان، الذي يُفترض أنه يتمتع بكيان دستوري، يواجه اليوم "سياسة تجويع" ممنهجة وضغوطاً مالية تمارسها أطراف إقليمية عبر أروقة بغداد، في محاولة لتقويض كيانه.

وهنا يبرز السؤال الوجودي: إذا كانت واشنطن تدعي الرغبة في الاستقرار وحماية الإقليم من هيمنة السلطة في بغداد، وحماية بغداد نفسها من "الشرور الإيرانية"، فلماذا تُركت الأيادي الإقليمية تتمدد إلى أبعد الحدود لتخنق أرزاق الناس ومستقبلهم؟ ولماذا يغيب الدعم الحقيقي لمن أثبتوا بجدارة استحقاقهم للاستقلال وإدارة شؤونهم بأنفسهم بعيداً عن صراعات النفوذ المفتعلة؟، و إذا كانت واشنطن تدرك تماماً أن إيران أصبحت هي "الآمر والناهي" في المشهد، فلماذا غضّت الطرف عن نتائج استفتاء 2017، ووقفت ضد حق تقرير المصير تحت ذريعة الحفاظ على "وحدة العراق"؟

إن ما تسميه واشنطن "تقسيماً" نراه نحن "حقاً تاريخياً" مشروعاً لشعب ذاق الويلات وأثبت جدارته بإدارة شؤونه. فبأي منطق ترفض أمريكا طموح الكورد في الاستقلال بينما هي ذاتها من ساعدت على وقوع العراق تحت سطوة النفوذ الإيراني؟ أين هي "الإنسانية" المدعاة حين يتم التضحية بإرادة شعب كامل مقابل الحفاظ على هيكل دولة منهارة سيادياً؟ إن الولايات المتحدة تتحمل المسؤولية التاريخية الأولى؛ فلو دعمت انتفاضة عام 1991 الخالدة، لكان الكورد قد أسسوا دولتهم منذ عقود، ولما شهدنا مأساة "الهجرة المليونية" التي نتجت عن التردد الأمريكي الذي فضل "الصندوق المغلق" على حرية الشعوب.

خلف غطاء "الحماية الإنسانية"، تبرز حقيقة استخدام الشعوب كأوراق تفاوض. فصندوق باندورا الذي فُتح في 2003 غلّف الكارثة بثوب التحرير، ليتبين أن الهدف لم يكن بناء دولة قوية، بل إدارة حالة من الضعف المتبادل. إن الصمت الأمريكي تجاه التغلغل الإقليمي الذي يمارس "كواليس" الضغط على الإقليم، يكشف أن واشنطن لا تزال ترى المنطقة مختبراً لتجاربها، حتى وإن كان الثمن هو تجويع حلفائها التاريخيين وتركهم يواجهون قدرهم أمام تمدد النفوذ الجار الذي خشت منه عام 1991 وساهمت في تمكينه عام 2003.

في الختام، يبقى الثمن دائماً يُدفع من قوت الشعوب التي أُجبرت على ارتداء أثواب سياسية لم تُفصّل لمقاسها. إن اليد التي تفتح الأزمات هي ذاتها التي تحاول اليوم غسل نفسها من "طين المستنقع"، تاركةً الكورد والعراقيين يواجهون نتائج أخطاء "الخياط" الذي لم يرتدِ يوماً ما خاطه للآخرين، والذي يبدو أنه لا يتعلم أبداً من "شوك" أفغانستان الذي لا يزال عالقاً في ذاكرة التاريخ.