تاريخ يُستدعى حين يشاءون: العراق بين حق الكويت وإنكار كوردستان

تاريخ يُستدعى حين يشاءون: العراق بين حق الكويت وإنكار كوردستان
تاريخ يُستدعى حين يشاءون: العراق بين حق الكويت وإنكار كوردستان

تأخذنا القضايا التاريخية العالقة في الشرق الأوسط إلى جوهر التناقض الذي يعاني منه الخطاب السياسي المركزي في العراق، فبينما يتم استدعاء التاريخ العثماني لشرعنة التوسع الجغرافي جنوباً باتجاه الكويت، يتم إنكار الحقائق ذاتها لقمع التطلعات القومية في إقليم كوردستان. إن المقارنة بين ادعاء العراق بتبعية الكويت بناءً على التقسيم الإداري العثماني، وبين إنكار حق الكورد في تقرير مصيرهم رغم وجود كيانات سياسية وإمارات تاريخية موثقة، تكشف عن ازدواجية مخجلة تعتمد "الانتهازية الجغرافية" بدلاً من العدالة التاريخية والإنصاف السياسي. لقد برز هذا التشويه التاريخي مؤخراً في تصريحات السياسي "خالد أبو عراقي"، الذي روج لمغالطة سياسية تدعي أن نضال الكورد كان مجرد رد فعل ضد "دكتاتورية" القرن العشرين، وليس نضالاً أصيلاً من أجل حق تقرير المصير. إن هذا التبسيط المتعمد يهدف بوضوح إلى تجريد الشعب الكوردي من حقوقه القومية الراسخة، وتصوير القضية وكأنها أزمة حقوق إنسان عابرة مرتبطة بنظام بائد، بينما الحقيقة التاريخية والجيوستراتيجية تؤكد أن الحراك الكوردي بدأ قبل ولادة الدكتاتوريات الحديثة بقرون، وتحديداً منذ لحظة محاولة طمس هوية الإمارات الكوردية التي كانت قائمة ككيانات سيادية مستقلة قبل أن يُرسم العراق بحدوده الحالية.

وبالعودة إلى الوثائق التاريخية، نجد أن الكيانات السياسية الكوردية كانت تمارس سيادة فعلية في وقت لم تكن فيه خارطة "العراق" الحالية قد وُجدت بعد أو حتى سُميت بهذا الاسم، فالتاريخ والأرشيف العثماني يوثقان ظهور الإمارات الكوردية كدول ذات سيادة، حيث بدأت إمارة الهزوانيين منذ عام 906م واستمرت حتى 1116م، تلتها إمارة الشداديين بين عامي 951م و1199م، والحسنيويين من 959م إلى 1015م، والعياريين من 990م إلى 1117م، فضلاً عن إمارة المروانيين بين 990م و1085م، والدولة الأيوبية التي امتدت من 1138م إلى 1341م. حدث كل هذا في حقبة كانت فيها أراضي وسط وجنوب العراق مجرد ساحة للصراعات الدولية، حيث كانت بغداد ترزح تحت ضعف الخلافة العباسية ونفوذ القوى العسكرية الأجنبية كالبويهيين، ومن ثم السلاجقة والمغول لاحقاً، مما يثبت أن الحق الكوردي هو "إرث سيادة" أصيل سبق تشكل الهويات القومية الحديثة في المنطقة بقرون طويلة، في وقت كانت فيه تلك الأرض جزءاً لا يتجزأ من الأراضي المسيطر عليها من قبل قوى خارجية.

كما يشهد التاريخ أن الدولة العراقية التي تشكلت بقرار استعماري دمجت ثلاث ولايات بناءً على ترتيبات إدارية عثمانية حديثة العهد وغير ثابتة تاريخياً، ففي عام 1864م صدر "قانون الولايات" الذي استبدل الإيالات بالولايات لتعزيز المركزية، وهذا يعني أن تبعية الكويت للبصرة أو دمج الموصل في هيكل العراق لم يكن قانوناً أزلياً، بل ترتيباً متأخراً طرأ على واقع جيوسياسي كان محكوماً لقرون بسلطة الإمارات الكوردية المستقلة ذاتياً كإمارة البدليسيين من 1182م إلى 1847م، والأردلانيين من 1169م إلى 1867م، والبهدينانيين من 1376م إلى 1843م، والسورانيين من 1816م إلى 1838م، والبابانيين من 1649م إلى 1851م، والتي كانت تمتلك جيوشاً نظامية وقلاعاً عسكرية وسلطة قضائية مستقلة قبل ظهور أي كيان سياسي منظم في مناطق الوسط والجنوب يضاهيها في السيادة.

استراتيجياً، استُخدمت اتفاقية "سايكس بيكو" كأداة هندسة قسرية لتثبيت هذه التناقضات، ورغم أن المجتمع الدولي اعترف بالكورد كقومية لها حق الوجود في معاهدة "سيفر" عام 1920 التي وعدت بدولة كوردية، إلا أن المصالح النفطية البريطانية غلبت الحق القومي في معاهدة "لوزان". وهنا تكمن المفارقة الصارخة في خطاب يصف استقلال الكويت بـ "البتر الاستعماري" ويتغافل عن أن ضم ولاية الموصل كان قراراً استعمارياً قسرياً بامتياز. 

وفي الختام، فكيف لسياسي لا يعرف التاريخ أن يصرح بهذه التصريحات بينما الأرشيف العثماني وما قبله يصرخ بحقائق دامت لقرون، عكس أرشيف الدولة العراقية التي تأسست فعلياً عام 1921م لتصبح كما هي اليوم. إن الرد على محاولات تزييف التاريخ يكمن في إثبات أن الهوية الكوردية ليست نتاج أزمات طارئة، بل هي نتاج إرث حضاري ممتد، وأن إقحام الكورد في الدولة العراقية كان "إلحاقاً" ناتجاً عن تفاهمات دولية تجاهلت وجود أمة كانت تدير شؤونها بنفسها قبل أن توضع "مسطرة" التقسيم الاستعمارية على ورق الجغرافيا، إذ لا يمكن التمسك بورقة إدارية في الجنوب وتمزيق مئات الصفحات من التاريخ السيادي في مناطق الكورد، فنضال الكورد لم يكن يوماً ضد شخص الدكتاتور فحسب، بل كان وما يزال صراعاً من أجل تصحيح خريطة استعمارية تجاهلت وجود أمة كانت تدير شؤونها بنفسها قبل ولادة العراق المعاصر.