
محمد زنكنة
محرر
أربيل.. عندما وُلِدت من جديد

قبل اي شيء، اود ان اؤكد للجميع بان ما اكتبه في هذه المقالة، يعبر عن وجهة نظري الشخصية وقراءتي الخاصة للاحداث، بالاعتماد على الحقائق الخاصة بهذا الموضوع.
شكل الحادي والثلاثين من آب/اغسطس 1996، انعطافة مهمة في تاريخ كوردستان والمنطقة، ووضع نقطة البداية لتطبيق القانون وتنفيذ الشرعية القانونية المدنية، بعد الانتفاء من الشرعية الثورية التي كانت موجودة في ايام الجبهة الكوردستانية، ليبدأ اقليم كوردستان فترة، كانت برغم صعوبتها، اساسا لكل الايجابيات التي نعيشها اليوم في اقليم كوردستان.
ولا ادعي بان اقليم كوردستان بعيد او خال من العيوب، فوجود قانون للاصلاحات، مشرع من برلمان كوردستان دليل على وجود الكثير من الاخطاء التي يجب ان تعالج، ولا انكر شخصيا باني لدي العديد من الانتقادات والملاحظات على الكثير من الامور التي تحصل في الاقليم، لكنني اتحدى اية دولة في العالم ان تكون خالية من الفساد او المشاكل والازمات، مهما كان التطور فيها ملحوظا.
ومع انني كنت مترددا في الحديث حول هذا الموضوع، لكن الجدل، ومحاولات التشويه والتسويف وعدم الانصاف، كان سببا في ان اغير رأيي في اللحظات الاخيرة للحديث حول امر يؤخذ دوما كاداة للمزايدة ضد اقليم كوردستان وخصوصا، اثناء وجود اية خلافات بين القوى المتنفذة في العملية السياسية العراقية، مع الحزب الديمقراطي الكوردستاني تحديدا، ولكن.. لماذا؟
لا اريد الغوص في تاريخ اربيل، الا ان ماسمعته من الكثير من خبراء الآثار في داخل وخارج كوردستان، ان متوسط تاريخ هذه المدينة يعود الى مالايقل عن خمسة الى ستة آلاف عام، ان لم يكن اكثر،هذه المدينة شهدت اولى الحروب العالمية بين الشرق والغرب، وهي اولى المدن المسكونة في العالم والتي مازالت الحياة المدنية مستمرة فيها.
وفي معظم تلك الفترة مرت هذه المدينة باكثر من مرحلة واحتلال وهجوم ودمار، وصولا الى انتفاضة آذار لعام 1991، ليتأمل الكوردستانيون ومن ضمنهم ابناء اربيل، كل الخير من مستقبل اساسه قوات بيشمركة كوردستان، بغض النظر عن الانتماء والحزب والتوجه السياسي.
لكن التشاؤم كان مخيما على الوضع في الفترة الممتدة من 1994-1996 ، حيث وصلت المدينة الى مرحلة الانغلاق والاسباب واضحة وكثيرة، ويكفي كل منها ليكون موضوعا وعنوانا لكتاب بحد ذاته. واستمر هذا الوضع، لحين الوصول الى يوم الحادي والثلاثين من آب/اغسطس 1996، والتي رسمت خطا جديدا لاربيل، كانت بمثابة ولادة جديدة وبداية لعهد جديد ومرحلة مختلفة عما سبق.
قبل تلك الفترة، تعاونت بعض القوى للسيطرة وباستقواء على حكم الاقليم بمساعدة اطراف خارجية، وباعتراف العديد من الدبلوماسيين والسياسيين على المستوى الاوروبي والامريكي والعربي، مما ادى بالحزب الديمقراطي الى تطبيق القاعدة التي ذكرها الرئيس مسعود بارزاني (دفع الافسد بالفاسد)، لوضع الاقليم مرة اخرى في المسار الذي كان متفقا عليه بين احزاب الجبهة الكوردستانية والتي قادت الانتفاضة.
ولاشك بان محاولات الانشقاق كانت موجودة في العديد من الثورات والانتفاضات في تاريخ شعب كوردستان، واثرت كثيرا على العديد من الامور التي كان متفقا على تحقيقها، لكنها لم توقف مسيرة الحركة التحررية في كوردستان، وكانت روح التسامح وفتح صفحات جديدة هي اساس البداية لكل مرحلة جديدة.
وهنا ايضا لن اتحدث عن اولى محاولات الانشقاق في ثورة ايلول في ستينيات القرن الماضي، حيث استغل شخوصها خلافات سياسية او عشائرية، لتكوين افواج عسكرية تحارب قوات البيشمركة، لانها معلومة لدى الجميع، ومانراه اليوم من بعض التفاصيل المشابهة، ليست الا امتدادا لهذه المحاولة الآنفة الذكر، وفيها تكمن الفحوى الحقيقية لهذه المقالة.
العقلانية والبراغماتية، وفن الممكنات، التي يتمتع بها الحزب الديمقراطي الكوردستاني، كانت سببا في اتخاذه لاكثر خطوة ذكية انقذ من خلالها اربيل من اوضاع تعاني منها اغلب المدن والمحافظات العراقية، حيث لا اعمار ولا قانون، ولا حرية تذكر، واؤكد مرة اخرى بان ذلك لايعني باننا نعيش في يوتوبيا المدينة الفاضلة التي اقترحها افلاطون في اقليم كوردستان وتحديدا في اربيل، ان كان على مستوى الحكومة بادائها وعملها، او الحزب الديمقراطي في العديد من الامور، ولكن على الاقل، ان ماحصل في عام 1996 اوقف كل ماكانت تريده بعض الاطراف فرضها على هذه المدينة باستغلال موقعها الجغرافي، للسيطرة على المنافذ الاقليمية للعراق حيث سيكون التهديد لكل دولة في المنطقة والعالم، امرا سهلا لكل قوة تسيطر عسكريا على هذه النقطة الجغرافية المهمة.
وفي تلك الفترة، حاولت هذه الاطراف، محاصرة الحزب الديمقراطي الكوردستاني، والسعي لتنفيذ هجمات عسكرية، محاولة اجتياز الحدود، لكن الديمقراطي تيقن لهذه الحركة واعتقل هذه القوة التي ارادت اختراق النقاط الغير مسموح باختراقها، واعادتهم الى اماكنهم عن طريق منافذ اخرى، وهناك شخوص يتهجمون اليوم على تجربة الاقليم السياسية، وعلى الحزب الديمقراطي، كانوا سببا اساسيا ورئيسيا للكشف عن هذه المخططات، وكل ذلك مثبت بادلة واثباتات.
بعد تلك الفترة، فتحت الابواب امام الاقليم نحو العالم، لان شرعية الحكومة والمستمدة من مقرها من العاصمة اربيل، وضعت اساسا للاستثمارات الاجنبية، للعلاقات الدبلوماسية الخارجية، لمنظومة امنية قوية تسيطر على محاولات الارهاب والارهابيين، وتكشف المخططات الهادفة للقضاء على استقرارها.
ومنذ ذلك الوقت، وضعت حكومة اقليم كوردستان اساسا للسياحة مازال يضرب بها المثل على مستوى المنطقة والعالم، وتحتل منتجات الاقليم الزراعية مكانة جيدة في العديد من الدول، وبرغم كل الهجمات الاعلامية التي تشنها الاطراف السياسية على اقليم كوردستان، تختار هذه الجهات جميعها وبدون استثناء، الاقليم واربيل، وتحديدا مقر الرئيس بارزاني للاحتماء من اية تهديدات من الممكن ان تواجهها اثناء اختلاق اية خلافات او ازمات سياسية، اذن .. من الذي استطاع ان يلعب لعبة السياسة ببراعة وخبرة وذكاء، باستخدام فنون الممكنات ولكن، دون التخلي عن الانسانية واخلاق الفرسان؟
لم يسلم الديمقراطي الارض هدية على طبق من ذهب في تحالفات سرية تحت الطاولة، ولم يترك الديمقراطي موقعه قربانا لمكسب سياسي مؤقت، ولم يضحي باية مكونات قومية ودينية ارضاءا لطرف سياسي او دولة، ولم يراهن او يلعب على شخص او جهة، لمجرد التباهي بانه عاند الحزب الفلاني وربح الرهان، ولو كان الديمقراطي وكما يشاع، قد سلم الاقليم بمقدراته لحكومة البعث، لم يكن للقوة العسكرية التي اقتربت من بعض المناطق (كمرتزقة) مأجورة من الديمقراطي ان تبتعد خلال مالايقل عن ثمانية واربعين ساعة من وقت تنفيذ الخطة التي كانت على اساس (دفع الافسد، بالفاسد)، وهنا تكمن العقلانية.
ان الطرف الاخر، والذي يستغل الظروف السياسية ومستجداتها وخصوصا، عند اقتراب اية عملية انتخابية، للحديث حول هذا الموضوع، يعلم جيدا وقبل غيره مدى الفارق القوي والواسع والشاسع، بين تصرفاتهم ومافعله وقدمه الديمقراطي، وهو على يقين وباعتراف اعضائه المنشقين، بان ماحصل انقذ اقليم كوردستان من الكثير من المشاكل التي لم تكن لتحل لولا الحراك السياسي الذكي الذي نفذه الحزب الديمقراطي لحماية التجربة السياسية التي حصدت ارواح الالاف من الشهداء من كل شبر من ارض كوردستان.
ولست هنا للتبرير، ولكن، الفرق كبير جدا بين الاتفاق والتفاوض الوقتي مع العدو، والاستسلام وتسليم الارض والمقدرات والتنازل عنها، وهذا ما اكده الرئيس مسعود بارزاني بان البارتي من الممكن ان يعاني من الكبوات والنكسات، لكنه من المستحيل ان يُسَلِم او يستسلم.