
د. ريبوار هادي
نائب عراقي
نحو التطبيق السليم لمفهوم اللامركزية.. قراءة في ضوء أفكار الدستور العراقي

يدور في الوقت الحاضر حديثٌ عن الإعداد لمسودة جديدة لقانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم بغية تشريعه.
وبما أن الدخول في تفاصيل نصوص هذا القانون يحتاج إلى نقاشات وجلسات استماع مع الجهات ذات العلاقة، لكن لا يوجد ما يمنع أن طرح بعض الرؤى عن الخطوط العامة بما يتفق مع المبادئ التي وردت في دستور جمهورية العراق الذي حمل أفكاراً جديدة للامركزية الإدارية.
ومن الضروري أن يتفق أي قانون جديد للمحافظات غير المنتظمة في إقليم مع الأفكار الحديثة التي حملها الدستور للامركزية الإدارية.
وتمثل المادة (122) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 (النافذ)، هي الأساس الدستوري للمحافظات التي أشارت إلى أن المحافظات تتكون من عدد من الاقضية والنواحي والقرى، ونصت بنحو صريح على منح هذه المحافظات صلاحيات إدارية ومالية واسعة، بما يمكنها من إدارة شؤونها على وفق مبدأ اللامركزية الإدارية، وقد أحال تنظيم ذلك إلى قانون.
وبالنظر إلى النص المتقدم ذكره، نجد أن إحالة موضوع صلاحيات المحافظات غير المنتظمة في إقليم إلى قانون، مرهون بأمرين وهما:
الأول: أن يضمن القانون صلاحيات إدارية ومالية واسعة.
الثاني: أن تكون تلك الصلاحيات على وفق مبدأ اللامركزية الإدارية.
ونجد أن هذه المادة قد وسّعت من الصلاحيات التقليدية للمحافظات، والواضح بدلالة المواد الأخرى بأن لها الحق في سن التشريعات ضمن النطاق الإداري للمحافظة نفسها وأن يكون الغرض من هذه التشريعات هو تطبيق اللامركزية الإدارية وفق الأسس التي نص عليها الدستور نفسه.
كما أن المادة (115) هي الأخرى قد وسّعت من طبيعة المحافظات، حيث منحت قوانينها الأولوية حال وجود خلاف مع الحكومة الاتحادية، فيما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية.
ومن القضايا الأساسية التي يتعين إدراجها في القانون الجديد، هو النص على الصلاحية التشريعية لمجالس المحافظات، وعلى الرغم من وجود قرار للمحكمة الاتحادية العليا في الدعوى رقم (155) لسنة 2019 وموحداتها، يقضي بأن الاختصاص التشريعي هو لمجلس النواب حصرياً، لكننا لا نتفق مع هذا القرار، فمجلس النواب له الاختصاص في تشريع القوانين الاتحادية حصرياً بصراحة نص المادة (61/ أولاً)، وهذا دليل على وجود قوانين أخرى غير اتحادية، فضلاً عن ذلك فإن المادة (115) وصفت ما يصدر عن الأقاليم والمحافظات بأنه قانون.
ومن الأفكار الحديثة التي حملتها المادة (115)، هو إمكانية تجاوز موضوع قاعدة تدرج التشريعات على أساس أن ما يصدر عن المحافظات يتعين اتفاقه مع الدستور، ولكن ليس بالضرورة أن يتفق مع القانون الاتحادي.
وهذا ضمان واضح بأن للمحافظات نوع من الاستقلال في اختيار التشريعات المناسبة التي تتفق مع رؤى سكانها، وحتى لا تفرض عليها في غير القضايا الاتحادية إرادة لا تتفق مع تطلعات هذا السكان.
وقد جاءت المادة (122) بفكرة جديدة عندما ألغت واحدة من القواعد اللامركزية التقليدية المعروفة بـ (الوصاية الإدارية)، حيث نصت هذه المادة على عدم خضوع مجلس المحافظة لسيطرة أو إشراف أية وزارة أو جهة إدارية غير مرتبطة بوزارة وله مالية مستقلة.
ونجد أن اللامركزية الإدارية في الدستور، جاءت كمرحلة انتقالية نحو اللامركزية السياسية عندما أجازت المادة (119) لكل محافظة أو أكثر بتكوين إقليم وفق آليات رسمتها هذه المادة.
جميع تلك المعطيات، تؤشر بنحو واضح وجود رغبة واضحة لدى المشرع الدستوري بالتخلي عن الفكرة التقليدية للامركزية الإدارية ومنح المحافظات التي تنضوي تحت هذا المفهوم المزيد من الاستقلال المالي والإداري وهو ما يتعين الانتباه إليه في سن أي قانون للمحافظات غير المنتظمة بإقليم.
وبناء على ما تقدم نتوصل إلى الآتي:
أولاً: إن الدستور العراقي قد أخذ بنظام اللامركزية الإدارية بالمفهوم الواسع وقد ابتعد عن بعض القواعد التقليدية، وعد هذا النظام مرحلة انتقالية نحو اللامركزية السياسية.
ثانياً: أن الدستور يمنح مجالس المحافظات اختصاص تشريع القوانين المحلية.
ثالثاً: إن الدستور قد ألغى قاعدة مهمة من القواعد التقليدية للامركزية الإدارية، وهي الوصاية الإدارية، عندما نص على عدم خضوع مجالس المحافظات إلى أي وزارة أو جهة غير مرتبطة بوزارة.
رابعاً: أن الأفضلية في القضايا التي لا تدخل ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية عند حالة حصول الخلاف مع الحكومة الاتحادية تكون لقانون المحافظات، وهذا يعني ليس بالضرورة أن يتفق القانون المحلي مع القانون الاتحادي، طالما أنه لا يخالف الدستور.