
د.ميرزاد حاجم
محاضر في جامعة ديميدف الحكومية الروسية
المؤتمر الوطني.. حينما يغيب الوطن: الإقصاء وتضارب المشاريع في مراحل ما بعد الصراع

المقدمة:
تشهد التجارب التاريخية تناقضًا جوهريًّا بين الشكل والمضمون في مفهوم "المؤتمر الوطني"، الذي يُقدَّم عادةً كرمز للوحدة، بينما يخفي في طياته آليات إقصاءٍ تُهمِّش مكوناتٍ حيوية في النسيج المجتمعي. يستحضر الفيلسوف الصيني "لاوتزه" في استعارته العميقة عن "حساء الأسماك الصغيرة" تحذيرًا من مغبّة فرض التجانس الثقافي أو السياسي عبر كبت التعددية، مشبِّهًا الوطن بالوعاء الذي يفسد نكهته إذا أُفرط في تحريكه أو أُجبرت مكوناته على الذوبان في بوتقة أحادية.
هذه الاستعارة ليست مجرد تشبيهٍ أدبي، بل مفتاحٌ لفكِّ شفرة إشكالية الحوارات الوطنية الزائفة، التي تتحول إلى أدواتٍ لترسيخ هيمنة الفصيل الأقوى، وتُنتج مشاريعَ وطنيةً هشَّة تُعيد إنتاج الصراع بدلًا من إنهائه. من فيتنام إلى سوريا، ومن الهند إلى جنوب أفريقيا، تتعرض هذه المقالة لشروط الحوار الحقيقي عبر مقارناتٍ تاريخيةٍ تكشف كيف يتحول غياب التمثيل العادل إلى أداةٍ لتأبيد الأزمات.
1. التعددية كضامنٍ للاستقرار: إخفاقات الماضي ودروس المستقبل
أ. فيتنام والولايات المتحدة: مصالحة مبتورة أم هيمنة مُعاد إنتاجها؟
بعد حرب فيتنام (1955-1975)، سعى الطرفان إلى بناء حوارٍ تحت شعار "المصالحة الوطنية"، لكنَّ هذا الحوار أخفق في دمج الأصوات المعارضة للنظام الشيوعي في الجنوب، لا سيما المثقفين والجماعات الدينية. لم يكن هذا الإقصاء مجرد خطأ تكتيكي، بل تعبيرًا عن رؤيةٍ أحاديةٍ حوَّلت الحوار إلى منصةٍ لترسيخ هيمنة الحزب الواحد، بدلًا من أن يكون جسرًا للتعايش. النتيجة؟ تحوَّلت مناطق الجنوب إلى بؤرٍ للاحتقان، حيث غذَّى التهميشُ الحركاتَ المناهضة للنظام لعقود، مما يؤكد أن السلام الحقيقي لا يُبنى بإسكات الأصوات، بل بضمِّها إلى طاولة المفاوضات.
ب. غاندي والاستعمار البريطاني: مساواة ناقصة وبذور صراعاتٍ لاحقة
رغم الإشادة العالمية بنموذج غاندي في المقاومة السلمية، إلا أن خطابَ الوحدة الوطنية ضد الاستعمار أخفى إشكاليةً عميقة: تهميشُ مطالب "الداليت" (المنبوذين) والأقليات الدينية مثل المسلمين والسيخ. لم يُدرك غاندي أن تحرير الهند من بريطانيا لا يكتمل دون تحريرها من نظام الطبقات، فتحوَّلت "الوطنية" الهندية إلى هويةٍ انتقائية، تُقصي مَن لا ينتمي إلى الأغلبية الهندوسية. اليوم، تدفع الهند ثمن هذا الإرث بصراعاتٍ طائفيةٍ متجددة، مما يؤكد أن الحوار مع العدو الخارجي يجب ألا يطمس الحوارَ مع الخصوم الداخليين.
ج. جنوب أفريقيا: العدالة الانتقالية كنموذجٍ لتجسير الهُوَّة
في مقابل النموذجين السابقين، قدَّمت جنوب أفريقيا بعد انهيار نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) نموذجًا فريدًا عبر "لجنة الحقيقة والمصالحة". لم يقتصر الحوار على تمثيل الأغلبية السوداء، بل شمل البيضَ ممَّن ارتكبوا جرائمَ بحق الإنسانية، وضحاياهم. الاعترافُ المتبادلُ بالآلام، والاستماعُ إلى الروايات المتناقضة، سمحا بتحويل العدالة من ثأرٍ إلى عقدٍ اجتماعي جديد. هذا النموذج يثبت أن الاعتراف بالتعددية – وليس محوها – هو أساس الذاكرة الوطنية المشتركة.
2. المشاريع الوطنية ما بعد الحروب: الوهم المؤسسي وسراب الوحدة
أ. سايكس بيكو: خرائطُ مصطنعةٌ وبذورُ التفتيت
كشفت اتفاقية سايكس بيكو (1916) – التي قسَّمت الشرق الأوسط بين القوى الاستعمارية – عن خطر تحويل الخرائط السياسية إلى أدواتٍ لإدارة المصالح الأجنبية، لا لتمثيل الواقع المجتمعي. بإهمال التكوينات العرقية والدينية (كالأكراد والعلويين والدروز)، زرعت الاتفاقيةُ بذورَ صراعاتٍ طائفيةٍ ما زالت المنطقة تعاني منها. هذا النموذج يعيد نفسه في اتفاقياتٍ دوليةٍ حديثةٍ تتعامل مع "الوطن" ككتلةٍ جغرافيةٍ مجردة، لا كنسيجٍ من الهويات الحية.
روسيا: نموذج للتنوع والتعايش
روسيا، التي تمتد على مساحة شاسعة وتضم أكثر من 190 قومية، تقدم نموذجاً فريداً للتعامل مع التنوع. النظام السياسي الروسي، رغم انتقاداته، نجح في بناء إطار دستوري وقانوني يحمي حقوق الأقليات ويضمن تمثيلها في المؤسسات السياسية. هذا النموذج يؤكد أن التنوع يمكن أن يكون مصدر قوة إذا تم إدارته بشكل صحيح.
3. الحوار السوري: الإقصاء كوقودٍ للأزمة
مثَّلت المفاوضات السورية (جنيف، أستانا، سوتشي) نموذجًا صارخًا للحوارات المزيفة. بإقصاء الأكراد – الذين يشكلون 15% من السكان – من معظم الجولات، تحت ذرائعَ مختلفةٍ (كربط قضيتهم بالإرهاب)، تحوَّلت المعارضةُ السورية إلى كيانٍ أحادي الهوية، يكرِّس الانقسام الطائفي ذاته الذي ثارَت ضده. لم يُنتج هذا الإقصاءُ مجرد أزمة شرعيةٍ للحوار، بل دفع بالأكراد إلى تبني مشروعٍ انفصاليٍّ كرد فعلٍ على التهميش، كما ظهر جليًّا في إعلان الإدارة الذاتية شمال شرق سوريا. حتى بعد التغييرات السياسية المحتملة، يظل الخطر قائمًا ما دامت الأقليات تُعامَل كـ"مكوناتٍ هامشية" يجب صهرها في بوتقة الهوية العربية، تحت شعاراتٍ وطنيةٍ فضفاضة.
4. نحو حوارٍ وطنيٍّ حقيقي: من التنظير إلى التطبيق
بناءً على الدروس السابقة، يمكن تحديد مقوِّمات الحوار الوطني الفعّال:
- التمثيل المتوازن: ليس مجرد إشراك الأطراف المتنازعة، بل ضمان تمثيلٍ عادلٍ للجماعات الإثنية والدينية والنساء والشباب، عبر آلياتٍ تكفل مشاركة المهمشين دون وصاية.
- الذاكرة المتعددة: تفكيك الرواية التاريخية الأحادية، والاعتراف بأن لكل جماعةٍ روايتها الخاصة للصراع، دون تسويغٍ للعنف أو إنكارٍ للضحية.
- الضمانات الدستورية: تحويل مخرجات الحوار إلى عقدٍ سياسيٍّ ملزمٍ (كفدرالية أو لا مركزية)، مع آلياتٍ قانونيةٍ لمراقبة التطبيق.
- الدور الدولي: تحييد التدخل الخارجي ليكون وسيطًا نزيهًا، لا طرفًا يفرض أجندته، كما حدث في اتفاقيات دايتون (1995) التي أنهت حرب البوسنة بقراراتٍ خارجيةٍ لم تُراعِ تعقيدات المجتمع.
الخاتمة: الوطن... ذلك الحساء الذي لا ينضج إلا بتنوع مذاقه
كما حذَّر "لاوتزه"، فإن محاولةَ توحيد نكهة الحساء بالقوة لن تُنتج إلا طعامًا فاسدًا. التاريخُ يعلمنا أن الإصرارَ على "النقاء الوطني" وهمٌ يغذي الحروب الهوياتية إلى ما لا نهاية. النماذج الناجحة – كجنوب أفريقيا – لم تنكر اختلافاتها، بل حوَّلتها إلى مصدر قوة. أما النماذج الفاشلة – كسوريا وفيتنام – فتُذكِّرنا بأن الحوارَ الحقيقي ليس ترفًا فكريًّا، بل ضرورةٌ وجوديةٌ لبناء وطنٍ يتسع للجميع. هنا يصبح "التمازج" – لا الذوبان – هو جوهر الوطنية الحقة.