
د.ميرزاد حاجم
محاضر في جامعة ديميدف الحكومية الروسية
الكورد بين الأمة الديمقراطية ودولة كوردستان

تُعَدّ فكرة "الأمة" في الفكر السياسي الحديث نتاجًا لعمليات معقدة، سواء كانت نابعة من تطور تاريخي وتجذُّر مجتمعي أو نتيجة مباشرة لـ**"هندسة سياسية"** وقرارات سلطوية. في الشرق الأوسط، حيث رُسمت الخرائط السياسية بأقلام رصاص ومساطر في مكاتب القوى الاستعمارية، شهدت المنطقة ولادة كيانات سياسية جديدة لم تكن بالضرورة نتاج تطور تاريخي طبيعي، بل كانت وليدة اتفاقيات دولية وأجندات جيوسياسية.
هذه العملية، التي أنتجت ما يمكن وصفه بـ**"أمم مصطنعة"، خلقت تناقضًا تاريخيًا جوهريًا: ففي حين حظيت دول مثل سوريا ولبنان والعراق والأردن بالاعتراف كـ"دول قومية"**، بقي الشعب الكوردي، الذي يُعَدّ من أقدم شعوب المنطقة، بلا كيان خاص به. هذا المأزق دفع الكورد إلى مفترق طرق سياسي وفلسفي، يقع بين السعي لإقامة دولة قومية كوردية على النمط الكلاسيكي، وبين تبني مشروع "الأمة الديمقراطية" الذي يتجاوز مفهوم الدولة القومية نفسها.
الهندسة الاستعمارية للشرق الأوسط: ولادة "الأمم المصطنعة"
تُعتبر الحقبة التي تلت الحرب العالمية الأولى نقطة تحول حاسمة في تشكيل الخريطة السياسية للشرق الأوسط. كان جوهر هذه العملية يكمن في تحويل الوعود السرية إلى وقائع على الأرض.
اتفاقية سايكس-بيكو (1916) ومؤتمر سان ريمو (1920): من التخطيط إلى التنفيذ
بدأت عملية التقسيم بالاتفاقية السرية المعروفة باسم سايكس-بيكو، التي أُبرمت بين بريطانيا وفرنسا في عام 1916. نصت الاتفاقية على تقسيم الأراضي العثمانية، حيث خُصصت لفرنسا منطقة نفوذ في سوريا ولبنان، ولبريطانيا أخرى في العراق، مع إدارة دولية لفلسطين ومنح بريطانيا ميناءي حيفا وعكا. كانت هذه الاتفاقية مجرد "خطة أولية" أو "تخطيط سري" لمناطق نفوذ، ولم تكن بعد صكًا قانونيًا يمنح هذه المناطق صفة الدولة.
التحول من التخطيط إلى التنفيذ جاء في مؤتمر سان ريمو الذي عُقد في إيطاليا عام 1920. كان هذا المؤتمر هو الذي أضفى "الشرعية الدولية" على اتفاقية سايكس-بيكو وأقَرّ نظام الانتداب. بموجب قراراته، وُضعت سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، بينما وُضعت فلسطين والعراق تحت الانتداب البريطاني. هذا التثبيت القانوني هو اللحظة الفارقة التي تحولت فيها "الخرائط الورقية" إلى "كيانات سياسية" معترف بها دوليًا. يمكن النظر إلى سايكس-بيكو كـ**"وصفة سرية"** وإلى سان ريمو كـ**"طبق نهائي"** يجسد تلك الوصفة.
التقسيم الإداري وتشكيل الهويات
استخدمت القوى المنتدبة سلطتها لإنشاء دول جديدة عبر قرارات إدارية مباشرة. ففي سوريا، لم تُسَلّم فرنسا "سوريا الكبرى" ككتلة واحدة، بل قامت بتجزئتها إلى دويلات أصغر على أسس طائفية وإثنية، مثل دولة حلب، ودولة دمشق، ودولة العلويين، ودولة الدروز، قبل أن تعيد توحيدها لاحقًا. وفي لبنان، قامت فرنسا بتوسيع "متصرفية جبل لبنان" التي كانت معقلًا للموارنة والدروز، وأضافت إليها مناطق مسلمة لتشكل "دولة لبنان الكبير" في عام 1920. هذه الدول لم تنشأ نتيجة لوعي قومي متطور، بل نتيجة لـ**"هندسة سياسية استعمارية"** مصممة لتأمين مصالح القوى الكبرى وتسهيل حكمها.
معاهدة سيفر (1920) وخدعة الكورد
في خضم هذه التحولات، أُبرمت معاهدة سيفر في 10 آب/أغسطس 1920، التي نصت صراحةً على الاعتراف بحقوق الكرد في الحكم الذاتي، بل وفتحت الباب أمام إمكانية إقامة دولة كوردية مستقلة في المستقبل إذا ما تقدموا بطلب إلى عصبة الأمم. إلا أن هذه المعاهدة لم ترَ النور قط. فبعد أقل من عامين، أدى صعود الحركة الكمالية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك إلى رفض المعاهدة بالكامل، مما دفع الحلفاء إلى إعادة التفاوض. النتيجة كانت معاهدة لوزان في عام 1923، التي ألغت جميع بنود سيفر المتعلقة بالكورد وتجاهلت حقوقهم بشكل كامل.
هذا المسار التاريخي يكشف عن حقيقة جوهرية: مأزق الكرد لم يكن في "رسم الخرائط" الاستعمارية بحد ذاتها، بل في "التقنين الدولي" الذي تَبِعَها. فالقوى الاستعمارية أظهرت استعدادًا لـ**"صناعة"** كيانات جديدة (كسوريا ولبنان) وإلغاء وعودها الأخرى (وعد الكورد)، مما يبرهن أن مصالحها كانت دائمًا هي المحرك الأوحد، لا أي "مبادئ" أو "حقوق تاريخية" مزعومة. لقد تركت هذه "الصناعة" إرثًا من الهشاشة السياسية، حيث أدت إلى دول تعاني من انقسامات هوياتية وعرقية أعمق مما كانت عليه قبل الانتداب.
"الأمة الديمقراطية" كبديل فلسفي: رؤية ما بعد الدولة
يقدّم عبد الله أوجلان في كتاباته رؤية نقدية متكاملة لمفهوم الدولة القومية، حيث يراها نتاجًا للحداثة الرأسمالية. في نظره، تُعتبر الدولة القومية أكثر أشكال السلطة توسعًا وقمعًا، حيث تعمل على إقصاء القوى الاجتماعية الأخرى وسلب الأفراد حريتهم. ومن هذا المنطلق، فإن الحل للمأزق الكوردي ليس في استبدال سلطة بأخرى، بل في خلق فضاءات مجتمعية مستقلة تستطيع أن تحكم نفسها بنفسها.
مشروع "الأمة الديمقراطية" كما صاغه السيد عبد الله أوجلان هو نتاج تفاعل مع فكر عالمي عميق:
* جان جاك روسو: مفهوم الإرادة العامة والعقد الاجتماعي كأساس لتنظيم المجتمع.
* كارل ماركس: تحليل الصراع الطبقي ونقد الدولة البرجوازية، مع توسيع دائرة الصراع ليشمل قضايا الهوية والمرأة.
* فريدريك نيتشه: نقد القيم السلطوية وتأكيد قوة الإرادة في مواجهة السلطة.
* ميشيل فوكو: مفهوم السلطة كشبكة لا تقتصر على الدولة، بل تشمل المجتمع والمؤسسات.
* موراي بوكتشين: البلديات التحررية والإيكولوجيا الاجتماعية كأساس لتنظيم لا مركزي، بيئي وديمقراطي.
* إيمانويل واليرشتاين: تحليل الرأسمالية كنظام عالمي يفرض أشكالًا من التبعية والهامشية على شعوب مثل الكرد.
من أبرز التأثيرات الفكرية على أوجلان هو الفيلسوف الأمريكي موراي بوكتشين، الذي يُعَدّ من أبرز منظّري "البلديات التحررية" و**"الإيكولوجيا الاجتماعية". كان بوكتشين يرى أن المجتمع البشري يحتاج إلى التحول من مجتمع هرمي إلى مجتمع بيئي يحقق التوازن بين أجزائه، وأن النظم السلطوية هي أساس الأزمة البيئية. هذا الفكر دفع أوجلان إلى القطع مع المنهج الماركسي-اللينيني المركزي، والتوجه نحو نموذج لا مركزي يُعرف بـ"الكونفدرالية الديمقراطية"**.
الأمة الديمقراطية هنا لا تعني دولة جديدة، بل بناء اجتماعي بديل يتأسس على المجالس الشعبية، الكوميونات، تحرر المرأة، والتعددية الثقافية، في مواجهة الدولة القومية المركزية.
يقوم مشروع "الأمة الديمقراطية" على أربعة مبادئ أساسية:
* رفض الدولة القومية: لا يسعى المشروع إلى إقامة دولة جديدة، بل يهدف إلى بناء نظام اجتماعي بديل لا مركزي يتأسس على المجالس والكوميونات الشعبية التي تدير شؤونها بنفسها. هذا النموذج يتجاوز فكرة الحدود المصطنعة، ويسعى لبناء شبكة من المجتمعات المحلية المتصلة عبر الحدود الوطنية القائمة.
* تحرير المرأة (علم المرأة – Jineology): يُعَدّ تحرير المرأة ركنًا أساسيًا في هذا المشروع. يرى أوجلان أن البنية الأبوية هي نتاج أيديولوجي للدولة القومية نفسها. لذلك، فإن أي تحرر حقيقي لا يمكن أن يكتمل دون تحقيق المساواة الجذرية للمرأة وتمكينها من القيام بدور حيوي ومتساوٍ في جميع جوانب الحياة.
* الإيكولوجيا: يربط المشروع بين الأزمة البيئية والبنية الهرمية للمجتمع والسلطة. فهو يدعو إلى مجتمع بيئي ديمقراطي يسعى للحفاظ على التوازن مع الطبيعة، ويجعل من حماية البيئة جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي.
* التعددية الثقافية: خلافًا للقومية الكلاسيكية التي تسعى إلى التجانس القسري، يطرح مشروع الأمة الديمقراطية نموذجًا لا يقوم على الإقصاء العرقي أو الديني، بل على دمج جميع المكونات الاجتماعية في إطار مشترك من التعايش والقبول.
إن الانتقال الفكري لأوجلان من الماركسية-اللينينية إلى "الكونفدرالية الديمقراطية" ليس مجرد تحول تكتيكي، بل هو إقرار بفشل نموذج "المركزية" الذي تنادي به الدولة القومية، سواء كانت رأسمالية أو اشتراكية. هذا التحول الفلسفي يعكس وعيًا بأن القومية هي جزء من المشكلة وليست الحل. فبدلًا من السعي لتصحيح خطأ سايكس-بيكو بخلق دولة قومية كردية أخرى، يقترح أوجلان تجاوز مفهوم الدولة القومية نفسه، مما يجعله حلًا "ما بعد حداثي" لإشكالية تاريخية. إن مشروع الأمة الديمقراطية يتجاوز القضية الكردية في جوهره، ليصبح مشروعًا عالميًا يطرح نموذجًا للتعايش السلمي والتعددية يمكن تطبيقه في أي منطقة تعاني من ويلات الدولة القومية.
ثانيًا: تروتسكي وصناعة القوميات
ليون تروتسكي قدّم مفهوم الثورة الدائمة، مؤكدًا أن الثورة الاشتراكية لا يمكن أن تبقى محصورة في بلد واحد، بل يجب أن تمتد عالميًا. لكنه في إطار التجربة السوفيتية، كان جزءًا من مشروع سياسي أعاد صناعة القوميات:
* تم الاعتراف بهويات قومية جديدة لم تكن واضحة المعالم مثل الأوزبك والكازاخ.
* تشكيل الهوية الأوكرانية والبيلاروسية لتناسب إطار "الاتحاد السوفيتي القومي".
بهذا، أظهر تروتسكي والبلشفية أن القومية ليست كيانًا طبيعيًا خالدًا، بل بناء سياسي يمكن إنتاجه.
وإذا قارَنّا ذلك بالغرب، نجد أن القوى الاستعمارية مارست الدور نفسه:
* فرنسا وبريطانيا رسمتا سوريا ولبنان والعراق والأردن ككيانات سياسية جديدة.
* هذه الدول لم تكن ناتجة عن تطور اجتماعي داخلي، بل عن "هندسة سياسية استعمارية".
* الغريب أن هذه الكيانات المصنوعة حظيت باعتراف دولي، بينما الكرد – كأمة تاريخية – حُرموا من ذلك الاعتراف.
تُظهر المقارنة بين التجربتين السوفيتية والاستعمارية أن "صناعة القوميات" كانت استراتيجية سياسية براغماتية لدى كليهما، لكن لأهداف مختلفة. البلشفية استخدمتها لتوحيد إمبراطورية متشرذمة، بينما استخدمتها القوى الاستعمارية لتقسيم إمبراطورية قديمة. القاسم المشترك هو أن القومية أصبحت أداة في يد السلطة. كما أن مأزق تروتسكي الأيديولوجي كان في أن نظريته الأممية (الثورة الدائمة) لم تستطع الصمود أمام واقع فشل الثورات البروليتارية في الغرب، مما مكَّن ستالين من فرض خطابه القومي الأكثر ملاءمة للواقع السياسي والعزلة الدولية للاتحاد السوفيتي. هذه الديناميكية تكشف عن العلاقة المعقدة بين الفكر السياسي والواقع الجيوسياسي.
ثالثًا: فكر البارزانيين وتجربة إقليم كردستان العراق
في مقابل أوجلان، جسَّدَ الراحل الملا مصطفى البارزاني فكرة القومية الكردية الكلاسيكية: الكفاح من أجل دولة كردية أو كيان قومي معترف به. هذه الرؤية استمرت مع قيادة مسعود البارزاني وهي تمتلك القاعدة الشعبية الأكبر في كل أجزاء كردستان، وأثمرت تجربة إقليم كردستان العراق بعد 1991، والتي تطورت بعد 2003 إلى كيان فيدرالي دستوري.
خصائص التجربة:
* مؤسسات قوية: برلمان، حكومة، قوات بيشمركة.
* انفتاح خارجي: تمثيل دبلوماسي وعلاقات اقتصادية دولية.
* صمود أمام التحديات: حصار اقتصادي، صراع مع بغداد، هجوم "داعش".
* نموذج مختلف في الشرق الأوسط يجمع بين الهوية القومية والاعتراف القانوني.
رغم أن استفتاء 2017 لم يحقق هدفه في الوقت الراهن، فإن تجربة الإقليم تُظهر أن الكرد قادرون على بناء دولة قوية إن توفرت الظروف الجيوسياسية.
رابعًا: بين الأمة الديمقراطية والدولة القومية – جدلية مفتوحة
* الأمة الديمقراطية:
* مرنة، عابرة للحدود، تسعى لإدماج كل المكونات.
* تحرر المرأة والبيئة في قلب المشروع.
* لكنها تفتقد إلى اعتراف دولي.
* الدولة القومية (نموذج البارزانيين):
* تحقق حلم الاستقلال والاعتراف.
* توفر مؤسسات قوية وعلاقات دولية.
* لكنها تواجه جغرافيا سياسية معقدة قد تجعلها مشروعًا محفوفًا بالصدام.
خامسًا: حلول مرنة للكورد
* دمج التجربتين: الاستفادة من نموذج المؤسسات في كردستان العراق، ومن روح التشاركية في الأمة الديمقراطية.
* المرونة مع الدولة القومية: انتزاع الاعتراف الدستوري والفيدرالي بدلًا من الصدام.
* بناء قومية مرنة: قومية كوردية لا تسعى إلى إقصاء الآخرين بل إلى إدماجهم في مشروع ديمقراطي.
* استخدام الدرس التاريخي: إذا كان الغرب قد صنع دولًا من فراغ (كسوريا ولبنان)، فلماذا يُحرم الكرد من كيانهم رغم أنهم أكثر تجذرًا تاريخيًا؟
* خطاب عالمي: تقديم المشروع الكردي كجزء من حل أزمات الدولة القومية عالميًا.
خاتمة
التجربة التاريخية أوضحت أن القوميات يمكن أن تُصنَع – كما فعل تروتسكي في الاتحاد السوفيتي، وكما فعل الغرب في الشرق الأوسط. لكن الكورد لم يُمنَحوا هذا "الحق". واليوم، أمامهم خياران: دولة قومية على النهج البارزاني أو أمة ديمقراطية على النهج الأوجلاني.
الحل الأكثر واقعية يكمن في الجمع بين الاثنين: بناء مؤسسات قوية مع روح ديمقراطية تشاركية، بحيث يتحول الكورد إلى نموذجٍ جديدٍ في الشرق الأوسط، لا ضحية لخرائط سايكس-بيكو ولا أسيرَيْ حلمٍ مؤجل.