
د.ميرزاد حاجم
محاضر في جامعة ديميدف الحكومية الروسية
رسالة أوجلان: تحول جذري في مسار القضية الكوردية بين السلمية وتحديات الواقع

خرج علينا السيد عبد الله أوجلان – من سجنه في إمرالي – بوجهٍ تغيَّرت ملامحه؛ فالحواجب الإستالينية المعقوفة أصبحت خفيفة وبيضاء، وتظهر عليه علاماتٍ صحية تُثير التساؤلات حول وضعه الجسدي. لكن ما أثار الجدل أكثر هو "خريطة الطريق" الجديدة التي طرحها، والتي تُشكِّل تحدياً مصيرياً لتركيا والمنطقة: إما تفجير الواقع القائم أو تصحيحه. فبات الجميع يدرك أن الخريطة الجيوسياسية للمنطقة على وشك تحولاتٍ عميقة، وأن الرسالة حملت بذوراً إما لسلامٍ تاريخي أو لصراعٍ أكثر تعقيداً.
وكما قال الرئيس العراقي السابق جلال الطالباني: "الشرق الأوسط برميل بارود، وأي شرارة قد تُعيد رسم خريطته بين ليلة وضحاها".
الرسالة: بين حلّ الحزب ونزع السلاح
في خطوةٍ وصفت بـ"الزلزال السياسي"، دعا الزعيم الكردي عبد الله أوجلان في رسالته إلى حلّ حزب العمال الكردستاني (PKK) ونزع السلاح، مُعلناً أن الظروف التي أوجدت الحزبَ – كالحرب الباردة وإنكار الهوية الكردية – لم تعد موجودة. جاءت الرسالة كـ"نداء أخير" للانتقال من النضال المسلح إلى العمل السياسي السلمي، مع تأكيده على ضرورة بناء علاقة جديدة بين الأتراك والكورد تقوم على:
- الاعتراف المتبادل بالهُوية.
- ضمان الحقوق الثقافية والسياسية
- ضمن نظام ديمقراطي تعددّي.
- نقد المشاريع القومية المتطرفة التي تغذي الصراع.
لكن الرسالة لم تخلُ من انتقاداتٍ لاذقة؛ إذ وصف أوجلان سياسات انقرة السابقة بأنها "جريمة ضد الإنسانية" بسبب إنكارها الوجود الكردي، وهو ما يُعتبر إشارةً إلى ضرورة تقديم تركيا تنازلاتٍ مُقابِل نزع السلاح.
مواقف النخب الكردية: بين التفاؤل والحذر
تباينت ردود فعل القادة الأكراد تجاه دعوة أوجلان، وفقًا لانتماءاتهم الجيوسياسية وأجنداتهم المحلية:
مسعود البارزاني (رئيس حزب الديمقراطي الكردستاني): أعلن في بيانٍ رسمي دعمَه لـ"أي جهدٍ سلمي"، مشددًا على أن السلام هو السبيل الوحيد لتحقيق المصالح الكردية في تركيا.
نيجيرفان بارزاني (رئيس إقليم كردستان العراق): رحَّب بالرسالة واصفًا إياها بـ"المنعطف التاريخي"، معتبرًا أن التزام PKK بها قد يفتح بابًا للحلول السياسية في تركيا.
بافل طالباني (حزب الاتحاد الوطني الكردستاني): دعا إلى تبني الدعوة كـ"مقدمة لعهدٍ جديد"، معربًا عن أمله في تحوُّلها إلى حوارٍ شاملٍ يضمن حقوق الأكراد.
مظلوم عبدي (قائد قوات سوريا الديمقراطية "قسد"): عبَّر عن ترحيبٍ حذر، خشيةَ أن تؤثر الدعوة سلبًا على الوضع الأمني الهش في شمال سوريا، حيث تُواجه "قسد" تهديداتٍ متعددة.
مسرور البارزاني (رئيس وزراء إقليم كردستان العراق): انسجم مع الموقف الرسمي للإقليم، داعيًا أنقرة إلى استغلال الفرصة لبناء جسور الثقة.
صلاح الدين دميرتاش** (القائد الكردي التركي السجين): أيد الرسالة عبر رسالةٍ من سجنه، مؤكدًا أن "المعركة القادمة هي معركة دستورٍ جديد يعترف بنا".
بالإضافة إلى ذلك، يمكن تحليل مواقف النخب الكردية من خلال النظر إلى الانقسامات الداخلية بين الأحزاب الكردية، وتأثير العلاقات الإقليمية والدولية على مواقفها. فعلى سبيل المثال، يمكن تحليل تأثير العلاقات بين إقليم كردستان وتركيا، والعلاقات بين قوات سوريا الديمقراطية والولايات المتحدة، على مواقف قادة هذه الكيانات.
الشارع الكردي: أصداء متضاربة لرسالة السجن
لم تكن ردودُ الأفعال الشعبية أقلَّ تعقيدًا من مواقف النخب:
المؤيدون: رأوا في الرسالة فرصةً ذهبيةً لطي صفحةٍ داميةٍ امتدت أربعة عقود، معتبرين أن المفاوضات السياسية – وليس الرصاص – هي الطريق الوحيد لانتزاع الحقوق.
المتشككون: تساءلوا عن جدوى الدعوة دون ضمانات تركية ملموسة، كالاعتراف الدستوري باللغة الكردية أو منح حكمٍ ذاتي.
الرافضون: اعتبروها استسلامًا مُهينًا، مُشيرين إلى أن نزع السلاح سيفقد الأكراد ورقة ضغطٍ حاسمة، خاصةً في ظل استمرار القمع التركي.
يمكن أيضًا تحليل ردود فعل الشارع الكردي من خلال النظر إلى التنوع الاجتماعي والثقافي داخل المجتمعات الكردية، وتأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية على مواقف الأفراد. فعلى سبيل المثال، يمكن تحليل تأثير البطالة والفقر والتمييز على مواقف الشباب الكردي.
قراءة في المرآة التاريخية: أوجلان و مانديلاة وغاندي وهو تشي منه، وتجربة الفلسطينيين
لا يمكن فصلُ دعوة أوجلان عن سياقها التاريخي العالمي، الذي شهد تحولاتٍ كبرى في أساليب النضال:
النموذج الفيتنامي: جمع هو تشي منه بين الكفاح المسلح والمفاوضات (كما في اتفاقية باريس 1973)، لينتزعَ الاستقلالَ عبر القوة. لكن القضية الكردية تختلف جذريًا؛ فالأكراد مُتوزعون بين أربع دول، وغيابُ كيانٍ جغرافي موحدٍ يجعل تحقيق "وحدةٍ عسكرية" ضربًا من الخيال.
النموذج الغاندي: اعتمد غاندي المقاومةَ اللاعنفية كخيارٍ استراتيجي، بينما وصل أوجلان إلى السلمية بعد مسيرةٍ دمويةٍ طويلة. التشابهُ الوحيد يكمن في الإيمان بقوة "التخلي عن العنف" كمدخلٍ للتفاوض، لكن السياق يختلفُ جذريًا؛ فغاندي واجه استعمارًا خارجيًا، بينما يواجه الأكراد صراعًا هوياتيًا داخل الدولة الواحدة.
النموذج الكتالوني:
يُقدم النضال السلمي في كتالونيا (إسبانيا) درسًا في استخدام الأدوات الديمقراطية، رغم فشل الاستفتاء الانفصالي 2017 بسبب غياب الدعم الدولي.
نيلسون مانديلا:
يشترك أوجلان معه في التحول من الكفاح المسلح (أومكونتو وي سيزوي) إلى التفاوض، لكن الفارق الجوهري – كما يوضح البروفيسور فرانسيس فوكوياما في كتابه "الهوية" – يكمن في طبيعة النظام المواجه: نظام ديمقراطي (جنوب إفريقيا) مقابل نظام مركزي (تركيا).
تجربة الفلسطينيين: شهدت تجربة الفلسطينيين تحولات مشابهة، حيث انتقلت منظمة التحرير الفلسطينية من الكفاح المسلح إلى المفاوضات السياسية. ومع ذلك، واجهت القيادة الفلسطينية تحديات كبيرة في تحقيق أهدافها، بسبب الانقسامات الداخلية، وتدخل القوى الإقليمية والدولية، وتصلب الموقف الإسرائيلي. يمكن مقارنة تجربة الفلسطينيين بتجربة الأكراد من حيث التشتت الجغرافي والسياسي، وتدخل القوى الإقليمية والدولية.
مستقبل السلام: بين رياح الأمل وعواصف التحديات
رسمت رسالة أوجلان ملامحَ طريقٍ وعرٍ، تحفُّه إمكانيات النجاح لا أقلَّ من مخاطر الفشل:
فرصٌ مُمكنة:
فتح حوارٍ مباشرٍ بين أنقرة وقيادات كردية، خاصةً إذا تبنت تركيا خطواتٍ رمزيةً (كإعادة تسمية المدن بأسماء كردية).
تحسين صورة PKK دوليًا في حال حل نفسه، ما قد يدفع الاتحاد الأوروبي إلى الضغط على تركيا للإصلاح.
عوائقُ كبرى:
العقلية الأمنية التركية: تُصر أنقرة على ربط أي تفاوض بـ"استسلام PKK الكامل"، بينما يرى الأكراد أن نزع السلاح يجب أن يكون متزامنًا مع منح الحقوق.
التشظي الكردي: انقسام الخريطة الكردية بين تركيا وسوريا والعراق وإيران يجعل التوافق على استراتيجية موحدة ضربًا من المستحيل.
مصالح القوى الإقليمية: قد تُعطِّل إيران – مثلًا – أي تسويةٍ في تركيا خشيةَ امتداد تأثيرها إلى أكراد إيران.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن تحليل تأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية على فرص السلام. فعلى سبيل المثال، يمكن تحليل تأثير التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية على تقليل التوترات بين الأكراد والدولة التركية
تحديات كارثية:
السيناريو الأسود: انقسام PKK إلى فصيلين (مؤيد للرسالة ورافض)، ما يُعيد إنتاج العنف بأشكالٍ أكثر تطرفاً.
- الوضع السوري: تُصر أنقرة على ربط أي تفاوض مع الأكراد بـ"تطهير شمال سوريا من قسد".
خاتمة: السلام كمسؤولية جماعية
لا تُختزل رسالة أوجلان في مجرد دعوةٍ لت غيير تكتيكي؛ بل هي اعترافٌ ضمني بأن عصر الثورات المسلحة قد ولى، وأن المستقبل يُحتِّم على الأكراد خوض معركة الهوية عبر صناديق الاقتراع لا عبر الخنادق. لكن نجاح هذه الرؤية مرهونٌ بتحولٍ موازٍ في الموقف التركي؛ فالديمقراطية التعددية التي ينشدها أوجلان لا يمكن أن تُبنى دون اعترافٍ تركيٍ بالخطيئة التاريخية المتمثلة في إنكار الوجود الكردي. التاريخُ يُعلِّمنا أن السلام لا يخرج من رحم المبادرات الفردية، بل من توافقٍ إراديٍ تُرعاه إصلاحاتٌ مؤسسيةٌ دوليةٌ وإقليميةٌ. فهل تُدرك الأطرافُ جميعها أن الفرصة الأخيرة قد أزفت؟.