
د.ميرزاد حاجم
محاضر في جامعة ديميدف الحكومية الروسية
سوريا.. خلاص الأسد وانهيار الوطن

نجحت العملية ولكن المريض مات " الوهم المُعلَن:
لم يكن "التحرير المزعوم" سوى لحظةٌ تجلّت فيها مفارقةٌ تاريخية: المجتمع الدولي أنقذ بشار الأسد، لكنه ترك سوريا تغرق في دوّامة الانهيار. فمنذ تلك اللحظة، تحوّلت الأحلام الثورية إلى كابوسٍ من الفساد المُعَمَّق، حيث بات "الفاسد الواحد" إمبراطوريةً من ألف فاسد، وتحوّل الشعب من مطالب بالحرية إلى البحث عن لقمة العيش في بلدٍ يُشبه جثةً مُمتدّة على طاولة التشريح الجيوسياسي.
وهكذا، انتقلت سوريا من ساحة حربٍ ساخنة إلى مختبرٍ بارد تُختبر فيه قدرة المجتمعات على النهوض من تحت ركام الهُويات المُتصدعة.
سُكْرَة السقوط وجُرعة الواقع:
ما إن خمدت أصوات المدافع حتى اكتشف السوريون أن "التحرير" كان مجرّد تغييرٍ للقناع. الأسئلة الجوهرية التي ثاروا من أجلها—العدالة، الكرامة، الحرية—تحوّلت إلى أسئلةٍ وجودية: كيف ننجو من الجوع؟ كيف نعبر الشارع دون أن نُخطَف؟ هنا، تتحوّل الأزمة من سياسية إلى *أنثروبولوجية*، حيث يفقد المجتمع نسيجه الأخلاقي، ويصبح "الأمن" ضرباً من الخيال.
لكن هل يُمكن إصلاح هذا النسيج الممزق بينما تتناثر قطع الفسيفاء السورية بين أيدي لاعبين إقليميين ودوليين؟!
يلزمنا ٦٠ عاماً.. حِسابٌ أم حَذَرٌ علمي؟
يقول البعض إن إعادة إعمار سوريا قد تتطلب ٦٠ عاماً. هذا الرقم ليس سحراً، بل هو نتاج معادلةٍ مركبة:
- **علمياً**: تشير دراسات مؤسسة "راند" إلى أن الدول التي تشهد حروباً أهلية تحتاج ٢٠–٣٠ سنة للتعافي اقتصادياً، لكن الاستقرار السياسي قد يستغرق ضعف المدة، خاصة مع استمرار التصدعات الاجتماعية (مثال: لبنان).
- **سورياً**: الوضع أكثر تعقيداً بسبب تدمير ٨٠٪ من البنية التحتية (بحسب الأمم المتحدة)، وتهجير ١٢ مليون سوري، وعقوباتٍ اقتصاديّة حوّلت الطبقة الوسطى إلى شبه منقرضة.
**→ انتقالية:** ومع هذا الخراب المادي، يطفو سؤال الهُوية كشبحٍ يطيل أمد الأزمة: هل تُبنى الدولة الجديدة على أساس المواطنة أم على تقسيمات الأقلّيات؟
الأقليّات.. شركاء ام ورقةٌ جيوسياسية؟**
مصطلح "الأقلية" سيف ذا حدين: من جهة، هو تأكيدٌ على التنوع الذي يشكّل فسيفاء سوريا، ومن جهة أخرى، أداةٌ لتفتيت الهوية الوطنية. التاريخ يُعلّمنا أن تحويل الهويات إلى "أرقامٍ طائفية" (كما في العراق ما بعد ٢٠٠٣) يُنتج ديمقراطية هشّة. هنا، يُصبح "الشراكة" ضحيةً لعقلياتٍ حزبيةٍ تعيد إنتاج خطاب القرن العشرين، بينما الخصوم الجُدد—مثل الألغاراشية (نظير الأوليغارشية الروسية)—يُحوّلون الوطن إلى سوقٍ للمزايدات.
لكنّ هذه المزايدات لا تحدث في فراغ، بل على خريطةٍ جيوسياسيةٍ يعاد رسم حدودها بالدم والقوة الناعمة.
ان الجغرافيا السورية تتغيّر.. مَن يرسم الخرائط؟
الحدود السورية لم تعد خطوطاً على الورق، بل ساحةً لصراعٍ مكشوف:
- تركيا: تُعيد إنتاج نموذج "المناطق الآمنة" كمشروعٍ استعماريٍّ جديد. تسابق الزمن لأبتلاع سوريا...
- إسرائيل: تضرب عمق سوريا كأنها تُمارس "الجراحة الاستباقية"
تعتمد على قاعدة اما دول صغيرة على قياسها او دول ضعيفة لا تستطيع حماية نفسها مشغولة بالخبز والماء ،اسرائيل اختارت بعد ٧ اكتوبر ان الحل الوحيد يكمن في الحرب
- إيران: حضورها قد يتراجع، لكنه لا يختفي—فالقاعدة القديمة تقول: "من يدخل سوريا لا يخرج بسهولة". السياسية الإيرانية التاريخية صبورة تعمد على المراقبة
وفي خضم هذه المعادلة، تبرز إشكالية الترميم: هل هو استعادة للفسيفاء التاريخية أم تزيينٌ لشظايا مُبعثرة؟
الفسيفاء.. ترميمٌ أم تزيين؟
الاستعارة الأقوى التي تُلخّص سوريا هي "الفسيفاء"—ذاك الفنّ القديم الذي يجمع قطعاً صغيرة ليرسم لوحةً خالدة. لكنّ ما يحدث اليوم هو محاولة لصق قطع بلاستيكية (مشاريع إعمار وهمية، اتفاقياتٍ هشة) من "علي إكسبريس" السياسة الدولية. الترميم الحقيقي يتطلب:
- **عقلانيةً مؤسساتية**: بناء دولة القانون، لا دولة الميليشيات. والعناصر الأجنبية التى تنتهج الانتهاكات على اسس دينية ومذهبية
- **اقتصاداً منتجاً**: تقويض سيطرة الألغاراشية الذين يحوّلون الحرب إلى سوقٍ سوداء. نلاحظ بعد سقوط بشار الاسد يتصدر المشهد التيك توكر والاليغاروشية
- قيادةً جامعة: رئيسٌ قوي لا يعيد إنتاج الديكتاتورية، بل يُعيد تعريف القوة كـ"قدرة على خلق التوازن"، داخلياً عبر العدالة، وخارجياً عبر تحالفاتٍ لا تبتلع السيادة.
هل يُولد الفراعنة من الرماد؟
سوريا لا تحتاج إلى "مُخلّص" فرد، بل إلى عقدٍ اجتماعي جديد يُحوّل التنوع إلى قوة، والخراب إلى فرصة. القيادة القوية ضرورة، لكنها يجب أن تكون جزءاً من بنيةٍ عقلانيةٍ تُعيد للفسيفاء ألوانها الأصلية—لا بقطعٍ بلاستيكيةٍ تُقلّد الماضي، بل بقطعٍ جديدةٍ تصنع مستقبلاً يستحق الحياة.