
د. ابراهيم احمد سمو
كاتب كوردي
نوروز: من صمود الأمس إلى أمل الغد

في رحاب التاريخ العريق، تتجلّى صورة نوروز كرمزٍ خالد للصمود والنضال من أجل الحرية والكرامة. فهو ليس مجرد احتفالٍ سنوي عابر، بل قصةٌ محفورة في ذاكرة الشعوب التي كافحت على مرّ العصور ضد الطغاة والظلم. ففي الأمس، كان النضال يُخاض عند كل باب، وتُسفك دماء الشهداء في سبيل حقٍ أصيل يكفل للإنسان أن يعيش على أرضه بحرية وكرامة. كانت الأيام آنذاك مليئةً بالمعارك الشرسة، حيث كان القمع والقتل والإبادة واقعاً يومياً تشنّه أنظمة مستبدة على الشعوب التي طالبت بوجودها وحقها في الحياة.
لقد عانى الشعب الكوردي بشكل خاص من وطأة الظلم والقهر؛ إذ تعرّض لكثيرٍ من الفواجع، سواء من قوى خارجية أو من خيانات داخلية، مما جعله يشهد فصولاً مؤلمة من الألم والمحنة. ومع ذلك، جاء نوروز الكورد ليكون فجر الأمل بعد سنواتٍ طويلة من الإبادة والقتل، معلناً بدايةً جديدة استمدت قوتها من تضحيات الأبطال الذين كرسوا حياتهم من أجل الحرية. أصبح نوروز رمزاً لاستعادة الهوية الوطنية وذكرى لنضالٍ طويل لا يُنسى، يُخاطب الوجدان ويوقظ في النفس روح المقاومة والتحدي.
إن الاحتفال بنوروز يحمل بين طياته رسالةً سامية تتجاوز حدود المناسبات العادية؛ فهو مناسبة لاستذكار قصص الكفاح والتضحية التي كتبتها دماء الشهداء، مثل أبناء كاوة الذين تحول اسمهم إلى رمزٍ خالدٍ للمقاومة. ارتفع صوتهم مع كل قطرة دمٍ سُفكت في سبيل الحرية، معلناً أن الإنسان دون حرية لا قيمة له. وفي كل عام، يتردد صدى هذا النداء في كل ركن من أركان العالم، فيصير نوروز بمثابة منارة تُضيء الطريق لمن يسعون إلى تحقيق العدالة وإعادة الحقوق إلى أصحابها.
ومع مرور الزمن، لم تخبُ روح النضال التي ينطق بها نوروز؛ بل ازدادت قوةً مع كل تحدٍ جديد، خاصةً مع التطور التكنولوجي والاجتماعي الذي أعاد تشكيل ملامح الحياة العامة. أصبحت احتفالات نوروز اليوم حدثاً عالمياً يجمع بين الماضي العريق والحاضر المعاصر، حيث تتلاقى الذكريات مع آمال المستقبل في مشهدٍ يعبّر عن وحدة الشعوب وتلاحمها على كلمة الحق. وفي هذا السياق، لم تعد الاحتفالات مقتصرةً على الشعب الكوردي فقط، بل امتدت لتشمل شعوباً أخرى عاشت معاناةً مماثلة، فصار نوروز مناسبةً عالمية تُجسّد قيم الحرية والمشاركة في نضال الإنسانية جمعاء.
إن هذا اليوم، الذي يكتسي فيه الميدان بعباءات الفخر والعزيمة، يعدّ شهادةً حية على أن الحرية ليست هبة تُمنح، بل هي حقٌ يُنتزع بالجهد والتضحيات. ففي كل مناسبة، يُحتفى بالأبطال الذين قدّموا أرواحهم فداءً للحرية، وتُرفع الهتافات التي تنادي بالعدل والمساواة في وجه كل ممارسٍ للظلم والاستبداد. وقد لعبت الاحتفالات دوراً محورياً في نشر رسالة التحدي، إذ كانت بمثابة صدقة جارية أُلقيت كلماتها على صفحات التاريخ، تُخلّد أسماء الشهداء وتُبرز معاني النضال والإباء.
ولا بدّ من الإشارة إلى أن هذه الاحتفالات لم تخلُ من تحدياتٍ وصعوبات، فقد شهدت أحياناً صراعاتٍ داخلية وانقساماتٍ أدت إلى بعض النكسات. لكن رغم كل ذلك، ظل نوروز منارةً للأمل ومحراباً للعزيمة، يجسد عزم الشعب على تجاوز العقبات وإعادة بناء مستقبل يستند إلى العدالة والحرية. كان التلاقي في هذا اليوم إعلاناً صريحاً عن رفض الخضوع لأي محاولات لإخماد شعلة الحرية التي طالما أضاءت الدروب في أوقات الظلام.
من هنا نستخلص درساً عظيماً في أن النضال من أجل الحرية يتطلب وحدة الصف، وترابط الوجدان، وإيماناً لا يتزعزع بحقوق الإنسان في العيش بكرامة. إن نوروز، برغم كل التحديات، يبقى رمزاً للثبات والإصرار، ويدعونا جميعاً إلى مواصلة المسيرة على درب الحرية، متحدين في وجه كل من يحاول زرع بذور الظلم والخوف. ففي كل عام تتجدد الدعوات للمقاومة وتتوالى التهاني والهتافات، معلنةً أن النور قادمٌ لا محالة، وأن الشعب الذي يحيا على أرض الحرية لن يقبل إلا بالحق والعدالة.
وفي النهاية، يُذكرنا نوروز بأن التاريخ ليس مجرد سجلٍ للأحداث، بل هو مرآةٌ تعكس ملامح الإرادة الإنسانية التي لا تُقهر، وأن كل شعلة تضيء في قلب الإنسان تروي قصة نضالٍ مستمر لا ينضب. فلتظل هذه المناسبة رمزاً للوحدة والتلاحم، ولتبقَ رسالة الحرية منبثقةً من تراثٍ أصيل لن يُمحى، تحمل في طياتها أمل الغد وبريق المستقبل لكل شعبٍ يسعى نحو عالمٍ يسوده العدل والكرامة.